فاطمة تحلم يومياً بخروج أبويها من المعتقل.. وعمر: رحت أشوف بابا وماما فى المحكمة معرفتش تخلد الطفلة فاطمة، ذات ال12 عامًا إلى النوم على سريرها، وفى كل ليلة ترى حلمًا يصعُب عليها تحقيقه على أرض الواقع، يتلخص فى خروج والديها من المعتقل. لأكثر من 60 يومًا منذ اعتقال الأبوين فى اليوم الأول للاستفتاء على الدستور، أثناء فض تظاهرة مناهضة للدستور وهي تحلم بذات الحلم، تسرح بخيالها بعيدًا وتتمنى شيئًا أصبح في زمننا هذا صعب المنال، وهو عودة أبيها وأمها من جديد بينهم، وهي ترى المنزل من دونهما لا شيء. الأب محمد عبد الله بسجن أبو زعبل.. والأم منى عبد الرحمن محمد في القناطر، وأطفالهما الثلاثة حكم عليهم الزمن أن يعيشوا أيتامًا، ليس لأن والديهما توفيا، ولكن لأنه تم اعتقال الأب والأم في نفس اليوم، ومن نفس المكان، أثناء فض تظاهرة بميدان الخلفاوي، وحكم عليهما القاضي ومعهم آخرين بالسجن عاماً مع الشغل. قبل معرفة الخبر كان الأطفال الثلاثة يلعبون ويلهون لا يلقون بالاً بالمنزل، إلا أن قلب شقيقتهم فاطمة كان يخفق لا تعلم لماذا ولكنها شعرت أن اليوم لن يمر مرور الكرام. لم يكن قرار إبلاغ الأطفال الثلاثة باعتقال والدتهم ووالدهم هيناً بالمرة على الأهل الذين طالبوا الأطفال بعد الاتصال بهم بالذهاب إلى منزل جدتهم الذي لا يبعد سوى أمتار عن منزلهم، ومرت الساعات إلى أن قرر الأهل إبلاغهم، فنزل النبأ على الأطفال كالصاعقة، خاصة فاطمة وعُمر الذي لا يزال في الصف الرابع الابتدائي، أما زياد الأصغر سناً ذو العشرة أعوام، فلم يكن مستوعباً لكل أبعاد الموضوع، هو فقط يشعر بأن والديه فى خطر ويرغب في رؤيتهما. حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا سيسي.. دعوات انطلقت من أفواه الصغار وهم يتابعون التلفاز ليلة النطق بالحكم، فبعد سلسلة من التجديدات أثناء احتجاز الأبوين بقسم الأميرية، تعلق الأطفال بآخر أمل، أن يخلى سبيلهما، ولكنه قضى بحرمان الأطفال الثلاثة من والديهما لمدة عام كامل. شهران مرا حتى الآن والأطفال الثلاثة أصبحت أقصى أمانيهم، الذهاب كل أسبوع لزيارة والديهما ورؤيتهما، وإشباع أعينهم قدر الإمكان بهما، لأخذ شحنة تصبرهم على فراقهما بعض الشيء حتى الزيارة التالية. زيارتان، واحدة لسجن أبو زعبل، حيث يتواجد الأب، والأخرى بسجن القناطر، حيث تمكث الأم، ويضطر الأطفال إلى أخذ إجازة مرتين في الأسبوع من المدرسة، نظرًا لأن الزيارة في الصباح والمشوار طويل. لم تطأ قدم الأطفال منزلهم منذ رحيل الأبوين، وحولوا معيشتهم إلى منزل جدتهم بعدما حملوا أمتعتهم إلى هناك، حيث أصبحت إقامتهم شبه الدائمة، يمكسون مع الجدة وهي التي بحاجة إلى من يقوم بخدمتها ورعايتها ولكنه حكم الزمن، كما أن عمهم وخالهم يترددون عليهم باستمرار في محاولة لسد فراغ غياب الأبوين، ولكن هذا لم يكن حلاً للأطفال الذين لا يعرفون سوى شيء واحد، هو عودة الوالدين إلى أحضانهم. من الوقت للآخر، تتوجه فاطمة وعمر وزياد لمنزلهم لإحضار بعض المتعلقات الخاصة بهم من ملابس وما إلى ذلك، فتقودهم أقدامهم الصغيرة إلى غرفة والديهما، وسرعان ما يشرد ذهن عمر صاحب ال10 أعوام، وتتجمد الدموع في عيون فاطمة، وهما ينظران إلى الغرفة التي اختفت منها الروح بعد غياب الأب والأم، وأصبحت مجرد حوائط صماء، يغادر الطفلان المنزل، وكل ركن من أركانه يذكرهم بموقف معين مع والديهم وذكريات جمعتهم معهما، ما بين ضحك ولعب وشد وجذب، كل الأشياء يشتاقون لها بحلوها ومرها. مرة في الأسبوع مش كفاية.. وببقى عايز أقعد معاهم أكتر.. ماما وبابا وحشوني كتييير.. عبارة جاءت على لسان الطفل زياد ذي ال6 أعوام، وهو يقول: أنا بروح أزور ماما وبابا في السجن مرة في الأسبوع، وبفضل معاهم ساعة أو أكتر شوية، وببقى عايز أشوفهم تاني بس مش بعرف.. في الزيارة ماما بتقعد تقولي اسمع كلام ستك وخالتك وبتحضن فيّه. وتابع الطفل: بابا وماما وحشوني كتير عشان بقالي كتير ماشفتهمش. البلطجية هم اللى أخدوا بابا وماما؛ هكذا يجيب الطفل زياد حينما يسأله أحد: مين اللى خد بابا وماما؟ وبعد اعتقال الأب وغيابه، أصبح عم زياد هو من يصطحبه كل صباح إلى المدرسة، بعدما كان والده هو من يمسك بيده ويذهب به إلى المدرسة. فاطمة ذات ال12 عامًا والتي تدرس في الصف الأول الإعدادي، حاولت أن تبدو متماسكة وألا تتساقط الدموع منها، ولكن عينيها كانتا كفيلتين بأن تعكس وتفصح لنا عما تشعر به الطفلة؛ فتقول: لما نزل بابا وماما الصبح مشفتهمش، بس لما صحيت حسيت إن فيه حاجة هتحصل معرفش ليه بس أنا حسيت بكده. وتتابع: توجهت أنا وإخوتي بعدها لمنزل جدتي بناءً على طلب الأهل ولم نكن نفهم شيئاً، ولكن في الليل أخبرنا جدو بنبأ اعتقال بابا وماما. وبلهجتها الطفولية الحزينة تُردّد: بدعي على الداخلية اللي أخدوا بابا وماما.. وطبعاً بأمر من السيسي، إن شاء الله ربنا ينتقم منهم، هكذا تصب الطفلة فاطمة يومياً دعواتها على من تسبب في اعتقال أبويها. دلوقتي مفيش حد بيذاكرلنا.. أنا مفتقدة كل حاجة من غيرهم.. هكذا لخصت فاطمة ما تشعر به وتفتقده قائلة: بابا وماما كانوا بيقعدوا ويتكلموا معانا.. إحنا مفتقدين ده. ثانيتين والزيارة خلصت حينما كان يتوجه الأطفال الثلاثة، فاطمة وعمر وزياد لرؤية والدتهم أثناء احتجازها في قسم الأميرية، سرعان ما تنتهي الزيارة، حيث تقول فاطمة: ماكناش بنلحق نسلم على ماما بس تمر ثانيتين، ونلاقي الضابط بيقولنا خلاااص الزيارة خلصت، لكن في السجن نجلس معاها من ساعة إلى ساعة ونص، أما الأب فكان محتجزاً بقسم شرطة الساحل، ثم تم ترحيله لسجن أبو زعبل. بعد الحكم على الأب والأم بالسجن سنة، فاطمة ترى أن التهم كلها ملفقة، فكلها أمور جعلتها تكون انطباعاً عن القضاء، فقالت: القضاء بتاعنا مسيس وبيحكم احكام غير واقعية، بابا وماما اتاخدوا أثناء فض مظاهرة.. بس ده مش جريمة في حد ذاتها. لو ماعشناش أحرار فوق الأرض يبقى تحت الأرض أولى بينا.. عبارة ترن فى أذن فاطمة ما بين الحين والآخر كانت دائماً تسمعها من والدها، تذكر نفسها بها، لتصبرها بعض الشيء على فراق الأبوين. أما عمر تجده بين الحين والآخر؛ شارداً بذهنه، وتارة أخرى يضع يده على خده فى صمت غير منتبه لما يدور حوله، تشعر وكأن هموم الدنيا بأكملها فوق كاهله الصغير، فينتابك شعور بأنه رجل عجوز، ولكنه في الحقيقة لم يبلغ من العمر بعد سوى 10 أعوام، يسرح في أبويه، يتخيلهما أمامه، أو هكذا يحلم الصغير الذي استيقظ من النوم، وفوجئ باعتقال قلب البيت الدافئ والجانب الصلب الذي يطلب منه أي شيء في أي وقت. موقف لا يزال محفوراً في ذاكرته؛ حينما توجه إلى سجن القناطر لزيارة والدته فلم يجدها، وعلم أنها فى المحكمة لنظر التجديد فهرول الطفل ومعه أحد أقاربه، عله يتمكن من رؤيتها، خاصة أنه لا يراها سوى مرة واحدة فقط في الأسبوع، وبالفعل وصل المحكمة، ولكن الأمن رفض نزولها من سيارة الترحيلات، وجعلهم يمضون على قرار الاستئناف وهم بالداخل، وقف الصغير أمام السيارة ليتمكن من رؤيتها أو حتى يلمحها بعينه، ولكن غابت سيارة الترحيلات الزرقاء عن بصره وتملكه الإحباط والحزن، وعاد إلى البيت بخفي حنين وخلد إلى النوم حاملاً همّاً فوق هم، وحزناً فوق حزن. المصدر: مصر العربية