بقلم: عزت القمحاوي أول أمس الخميس كنت أجترح بطولتي اليومية، التي أشترك فيها مع ملايين البشر في القاهرة، إذ نتحمل مسؤولية الوصول إلي أعمالنا في ظل الانسداد الدائم للشوارع. معركة الخميس كانت مميزة، فالصيف نكث بتلويحة الوداع وعاد راسخاً كنظام الحكم، والرئيس كان في قاعة المؤتمرات يختتم المؤتمر الرابع للحزب الذي حمل شعار الانطلاقة الثانية نحو المستقبل ! وهذه بحد ذاتها معجزة وكرامة، في زمن عزت فيه المعجزات: كيف يستطيع الحزب الوطني وحده الانطلاق إلي المستقبل؟ أي طرق يستخدم إذا كانت شوارع القاهرة لا تأخذ بمستخدميها إلي أية وجهة، بينما تحمل الطرق السريعة خارج العاصمة والسكك الحديدية والبواخر مستخدميها إلي الآخرة؟! انطلاقة الحزب المحروسة جيداً، مع الحر المستبد الذي اقتحم الشوارع دون حراسة، مع دخان السلاحف الحديدية، مع ثلاثة أيام من الكلام في مؤتمر الحزب معلقة في سماء العاصمة، يضاف إلي كل ذلك القطع التبادلي للمياه بين أحياء العاصمة ما يعني أن بعض الساعين في ذلك الصباح غادروا بيوتهم دون أن يغتسلوا، كل هذا ظلل الشارع بخيمة كثيفة من الرائحة، يضيق تحتها التنفس والصبر، وتكاد اليد تلمسها. أنا في قلب الجحيم . هكذا وصفت الوضع في ساحة الوغي فوق كوبري أكتوبر لصديقة هاتفتني من عاصمة نظيفة، وهي قالت باللهجة المصرية مجاملة ومخففة: عشان كده الناس ناضجين! المجاملة أعجبتني، وتصلح شعاراً جديداً للحزب الوطني، شعاراً حقيقياً ومقنعاً، بدلاً من شعاراته الكاريكاتورية التي تضع المصريين علي حافة الجنون. (الإنطلاقة الجديدة نحو الجحيم.. لتنضجوا)! أعجبتني الفكرة، فشعار كهذا، يستند إلي منطق، من شأنه أن يجمع بعض الأتباع للحزب، خصوصاً إذا ما بدأت قياداته تحت تأثير الشعار تتصرف ككل قيادات الأحزاب في العالم، وتعقد مؤتمراتها في الهواء، أعني في الجحيم الطلق، وليس في قاعة المؤتمرات والمكيفة، والمحروسة جيداً. الانطلاقة نحو الجحيم ستكون المبادرة الأولي لحزب الأغلبية الإسمية في الاقتراب من الواقع بدلاً من الاستكبار اللغوي المسيء. أقسم، لارغبة لديّ في الإساءة إلي أحد من وراء هذا المقترح، الذي نضج في رأسي خلال إقامتي في الجحيم أمس، بينما أكتب الآن بعد ظهر الجمعة، وهو يوم عطلة، أي أنه يوم للسلام الذي عز خارج جدران البيت. لا أعاني سوي بعض أعراض العطش، التي لم تصل بعد إلي الحد الذي يؤثر علي اتزان الفكر أو الضمير، خصوصاً وأنني لست متأكداً من أن وجود المياه الملوثة أفضل من انقطاعها. هل أبدو حانقا؟ أقسم، لست مغتاظاً، لكنها المصادفة العجيبة يجب ألا تمر دون تأمل؛ إذ كانت القاهرة الأسبق بالدحرجة إلي الماضي قبل أيام من انطلاقة الوطني إلي المستقبل، وتوج وصوله بخطاب للرئيس أعطي فيه توجيهاته بالانطلاق إلي المستقبل، بينما العاصمة وخلافاً لتوجيهات السيد الرئيس استمرأت الإقامة في الماضي، بتواصل انقطاع المياه، الأمر الذي يضع شعار الانطلاق إلي المستقبل في موضع غير لائق! لايمكن أن يكون شعار كهذا في صالح حزب يسعي إلي أن يكون له وجود فعلي بين الناس. وإذا كان في السياسة ثمة مجال للحديث عن النوايا، فينبغي التفتيش في نوايا الشباب الذين وضعوا هذا الشعار، فنحن نعرف أن المبالغة في المدح ليست سوي طريقة للذم. وليس انقطاع المياه و تلوثها، أو انسداد الطرق وخطورتها المظهرين الوحيدين اللذين يقطعان الطريق علي أي مستقبل. هناك تدهور التعليم والصحة وانعدام فرص العمل، والفساد والاحتكارات التي لم تقصر الصحافة (خصوصاً الحزبية والمستقلة) في انتقادها ولم يتوقف رجال الأعمال المتزوجون من النظام عن ارتكابها. وفي المقابل هناك الأم التي ألقت بنفسها ورضيعها في النيل، لأنها لاتجد ما تأكله، وهناك جرائم القتل العائلي لخلافات علي مصروفات المدارس أو رمضان والأعياد. كل هذا في صفحات الحوادث، المكان الوحيد الآن الذي يجمع بين الأغنياء والفقراء في مصر، والمكان الوحيد الذي يقول إلي أية هاوية تنطلق البلاد. وكيف ينطلق بلد (إذا كان البلد هو المقصود بالانطلاقة) إلي المستقبل إذا كان النقد فيه لايؤدي إلي تغيير، والكشف عن قضايا الفساد لايؤدي إلي تطهير؟ كيف ينسحب نظام من الحاضر ويهرب إلي المستقبل، بنفس الكليشيهات القديمة وبوعود بتعديلات في مواد شكلية بالدستور، ليس بينها تقنين مدة رئاسة الجمهورية أو إلغاء نسبة العمال والفلاحين في المجالس التشريعية التي تعاني من الهزال بسبب أمية نصف أعضائها؟ ہ ہ ہ ليته يعيش معنا فينضج أو يذهب هذا النظام.