اختصر الروائى الكولومبى جابرييل جارسيا ماركيز دوافعه إلى الكتابة فى طموح بسيط: «لكى يحبنى أصدقائى أكثر». وقد تكون محبة الأصدقاء مبررًا كافيًا لدى الممسوس بلعنة الأدب، كى يستنفد نور عينيه فى كتابة رواية بعد أخرى. لكن كتابة الرأى فى الصحف لها دوافعها المختلفة التى قد تكون بسيطة أيضًا: «أن ندافع عن أنفسنا». على أن محبة الأصدقاء تبقى هدفًا يطلبه الإنسان فى كل حين، وقد لامنى بعض من أثق فى محبتهم على ما اعتبروه زوغانًا من معترك اسمه «عودة البرادعى» وكأن الإفتاء فيه فرض عين على كل من أمسك بقلم هذه الأيام! وكنت قد آثرت الانتظار لحين تنكيس الدساتير المرفوعة على أسنة الرماح، ولحين تأمل ردود فعل الحدود القصوى التى تطبع الجدل السياسى المصرى منذ سنوات، التى ألقت بظلالها على الجدل حول مستقبل الحكم، منذ أعلن البرادعى استعداده للاستجابة للنداء الوطنى، مرشحًا للرئاسة. وهو الجدل الذى تأجج باستجابة الرجل لإغواء التوك شو، والصورة التى ظهر عليها فى هذه البرامج، لتضيف مزيدًا من المسؤولية على عاتق من يريد أن يتناول الرجل والقضية، بعيدًا عن التجريح التافه والتسليم الكامل. ومن المفارقات الظريفة أن التجريح الذى اقترفه النائحون بأجر بحق الرجل، إثباتًا للولاء لنظام انتدبهم لحراسته، كان أفضل مديح لقدرات البرادعى، بينما كان التسليم الكامل بمعجزاته أسوأ ذم لقدرات المصريين، إذ ظهرنا كشعب يضيق بمسؤوليته عن نفسه، ويتحين الفرصة ليجد من يلقيها على عاتقه، لكى يستأنف نومه تحت الظل العالى للزعيم، أى زعيم. والأرجح أن محمد البرادعى الحقيقى، ليس أيًا من الرجلين (المذموم والممدوح) ليس ذلك الغريب العاجز عن التغيير بسبب سنوات إقامته فى الغرب، وليس صانع المعجزات الذى يعرف دواء لكل داء مصرى. الرغبة فى التغيير تحددها الروح، والقرب من مصر منبعه القلب لا الجغرافيا، ويمكن لمواطن من أسرة متوسطة مثل محمد البرادعى أن يعرف كل شىء عن مصر، بمعايشته لهموم أسرته، أكثر من أى من مستشرقى لجنة السياسات فى الحزب الوطنى. وبالمعنى الكمى يمكن أن يكون قد قضى بين الناس فى عطلاته بالقاهرة أكثر مما قضاه الكثيرون من المقيمين على الأرض المصرية بشكل متواصل، ولا يرون المصريين إلا من وراء حجاب زجاج سياراتهم المفوم، وهى تعبر فى شوارع أخلاها الحرس. هذا عن انتماء البرادعى ووعيه بمشاكلنا الذى يشكك فيه كتبة فشلوا فى الانتماء حتى إلى مهنتهم، أما القدرة على اجتراح المعجزات، فهى ما يجب ألا نتوقعه من الرجل. وقد قالها الرئيس مبارك، أثناء مؤتمره الصحفى مع المستشارة الألمانية الأسبوع الماضى «مصر ليست فى حاجة إلى بطل قومى». بهذا الاختصار الذى يحسده عليه ماركيز، حامل نوبل فى الأدب، تجلت حكمة الرئيس، عن حق. ومن حسن الحظ أن «اللابطولة» هى الميزة الأساسية للبرادعى التى لا يدركها المؤمنون والكافرون به على السواء. البرادعى ليس قائد ثورة، أو قائد طابية (على قول الدلوعة العظيمة شويكار) وليس صاحب قرار العبور، وليس صاحب ضربة جوية أولى أو أخيرة، هو واحد من الناس، وجوده خارج مصر لسنوات طويلة جعله بمنأى عن الشبهات التى أصبح اجتنابها مستحيلاً على من عاش العقود المصرية الأخيرة التى تكاثرت فيها تشبيكات الفساد العنقودية، التى تجبر، حتى الرجل الشريف، على بعض التسويات. والبرادعى، أخيرًا، ليس خطيبًا مفوهًا يبيع الوهم مثل أوباما، وبالتالى فإنه ليس ذلك البطل القومى ولا شبيه البطل القومى، الذى لا تحتاجه مصر الآن، كما قال الرئيس صادقًا. وكونه ليس ذلك البطل ولا ابن البطل، فإنه مطالب من الآن بالعمل من أجل نيل صفة مرشح رئاسى فى دولة مؤسسات. وهذا يتطلب مغادرة مربع الغضب المبهم، الذى يشبه غضب أى مواطن آخر. لم يعد يكفى أن يتحدث البرادعى فى برامج الصابون المسائية عن غضبه بسبب تقدم مصر فى مؤشرات الفساد وتأخرها فى مؤشرات النمو الدولية، كما يجب ألا يكون عرضة لابتزاز سؤال هجومى عن موقفه من اتفاقية كامب ديفيد أو من احتلال العراق ولا يستطيع أن يجيب كرجل دولة. وهذا يتطلب عملاً منظمًا شبه مؤسسى من فريق متخصص، يضع خطط الإصلاح القانونى والاقتصادى فى الداخل، ويؤكد على الخطوط الخارجية، ما يمكن التحول فيه برفع مستوى الأداء فى العلاقات مع الدول، وما يجب الثبات عليه من اتفاقيات وتعهدات وقعتها الدولة المصرية، ويجب أن يلتزم بها أى رئيس قادم، من غير أن يكون انهزاميًا، ومن غير أن يستحى من الإجابة على سؤال شائك مثل سؤال العلاقة مع إسرائيل. وعندما يحدث هذا، سيجد الشعب نفسه أمام مرشح محدد، وسيكون البرادعى الذى ليس بطلاً قوميًا، هو رجل هذه اللحظة الخطرة فى تاريخ مصر.