يوم الخميس السابع من أكتوبر الماضى كنت على سفر، عندما قرأت على هذه الصفحة للجليل الدكتور إسماعيل عبدالجليل يشكر الطماطم ويرفع عنها تهمة الجنون، لأنها بأسعارها الأخيرة نجحت فيما فشل فيه الزراعيون، وهو لفت أنظار الأمة إلى تدهور حرفة الزراعة. وأنا أوافق الدكتور عبدالجليل تمامًا، بشأن الخضة التى أحدثتها أسعار الطماطم فى جميع الأوساط الاجتماعية المصرية، لكن مشكلة مصر فى الزراعة، وفى كل شأن، ليست فى وعى الأمة، بل فى وعى وإخلاص من يصدر القرار. النظام لا يثق فى قدرة المصريين على الإنتاج مثلما يشك فى قدرتهم على الاحتجاج، ولهذا فإن السياسات الزراعية والصناعية والاجتماعية منذ منتصف التسعينيات وحتى اليوم تتجه إلى تعميق روح الإمارة بدلاً من الجمهورية. فى الإمارة هناك راع وعدد قليل من المحسنين وأغلبية كبيرة تستحق الإحسان ويجب أن تتلقاه بعين كسيرة وفم ينفتح لالتهام الحسنة القليلة وليس للكلام. فيما يخص الملف الزراعى لم ينتظر الحريصون على فكرة الدولة المصرية وعزتها غلاء الطماطم لكى يحذروا من السياسات التى تتخذها الحكومة منذ إلغاء الدورة الزراعية وتصفية التعاونيات فى منتصف التسعينيات وإهمال وزارة الرى ونزع شركة الكراكات منها وتركها تعانى من بؤس جندى تم الدفع به إلى الميدان دون سلاح. تشهد على ذلك مقالات العلاّمة رشدى سعيد ومقالات الدكتور عبدالجليل نفسه ود. محمود عمارة، هل أقول وأنا؟ وعندما يُكتب تاريخ هذه الحقبة ناشفة الدموع سيذكر ل«المصرى اليوم» اهتمامها بالملف الزراعى واحتضانها مقالات تحذر مما ينتظر الزراعة فى مصر، بعد أن نجحت الحكومة فى جرّ المعارضة السياسية وأصحاب الأقلام إلى المعركة الضيقة فى أعلى السلطة: توريث أم تغيير؟ وفى الوقت الذى انحصر فيه الحراك السياسى فى مثلث الحريات بشارع عبدالخالق ثروت بين نقابتى المحامين والصحفيين ونادى القضاة، كانت أسوأ عملية تجريف تتم للقرية المصرية، وقد بلغت الكارثة ذروتها فى الموسم الصيفى الذى انتهى وشهدت أراضى الدلتا للمرة الأولى فى التاريخ ظاهرة البوار. ترك الفلاحون ما لا يقل عن ربع الأرض بورًا بسبب الخسارة التى يتعرضون لها، باستثناء ثلاثة محاصيل هى البرسيم واللب والأرز الذى تم تحديد مساحاته بسبب شح المياه، وهناك الكثير مما يقال عن السياسات المائية فى السنوات الأخيرة، وأولويات الاستخدام بين ملاعب الجولف ومغامرة توشكى، وحتى استصلاح الصحراء هنا وهناك فى الشمال. المهم فى ملف الزراعة أن الفلاح لم يكتشف الخسارة أو يتعرض لها فجأة، فالكثير من المحاصيل تحقق الخسارة منذ سنوات طويلة، لكن الفلاح كان يتحمل خسارة محصول الذرة لأنه يعوضها من تربية قطعة ماشية وإعاشتها طوال الصيف على خضرة الذرة، سواء العيدان المعطوبة والزائدة التى يخلعها قبل نضج المحصول أو باللجوء إلى التوريق والطرطفة، أى نزع الأوراق الخضراء والثلث الأعلى من الساق بعد نضج الكوز، كذلك ظل يتحمل القمح لأن التبن يعوض خسارته فى الحبوب، وبعد أن صار الاحتفاظ بالماشية مستحيلاً بسبب جنون أسعار العلف الذى تحتاجه الماشية فى كل الأحوال اكتشف المزارع أن ترك الأرض بورًا هو الطريقة الوحيدة لوقف خسارته. والطريف أن الطريقة الوحيدة التى رأتها الحكومة لعلاج الموقف هى التهديد بالغرامة لمن يتعمد تبوير أرضه، ولا أعرف إن كان هذا التهديد سينفذ أم لا، لكن إرهاب المزارعين وإجبارهم على الخسارة ليس الحل الأمثل للمشكلة. الحل كما يراه كل المهتمين بالزراعة فى تغيير المعادلة من الخسارة إلى الربح. وقد أعلن رئيس الوزراء أمام مؤتمر دولى بدايات هذا الشهر أن الحكومة بصدد وضع سياسة زراعية جديدة تعطى الأولوية للمحاصيل الاستراتيجية، وحتى الآن لم نسمع منه أو من وزير الزراعة تفصيلاً لهذه السياسة، هل سيضغطون على زر لتحقيقها أم سيتخذون إجراءات عملية لذلك؟! الأمر لم يعد يحتمل اللعب، لأن الناس يمكنها أن تصبر على غياب الديمقراطية، وقد صبرت ستين عامًا لكنها لا تصبر على غياب الرغيف، وما حدث فى الموسم الصيفى الماضى مرشح للتفاقم إن لم تعتمد وزارة الهواة على خبراء يؤكدون لهم أن الأنشطة الاقتصادية (ومن بينها الزراعية) لا تسير فى خطوط مستقيمة بل فى دوائر وتشابكات، وأن سياسة ضرب محصول القطن أدت إلى تدهور صناعة الأعلاف، وغلاء الأعلاف أدى إلى ذبح الثروة الحيوانية، وذبح الثروة الحيوانية كشف حجم خسائر الزراعة، وخسائر الزراعة أدت إلى بوار الأرض وجنون أسعار الخضروات. ولابد من عاقل يهمس فى آذان مجموعة المستشرقين بأن فدان الأرض القديمة أولى بالرعاية من عشرة بالصحراء، وأن المجتمع المصرى تغير بالتعليم ولم تعد هناك أيد عاملة كافية فى الريف ولابد من الميكنة، ولأن الملكيات الريفية صغيرة لا تسمح للمزارع بتملك الآلات الحديثة، فلابد من عودة التعاونيات بقوة وتزويدها بالآلات التى يمكن تأجيرها للمزارعين بأجور معقولة.