رئيسا روسيا وكازاخستان يؤكدان مواصلة تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين    علي معلول يغادر تونس على عكازين    عماد النحاس: نتيجة مباراة الأهلي والترجي «مقلقة»    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    بن حمودة: أشجع الأهلي دائما إلا ضد الترجي.. والشحات الأفضل في النادي    بوجه شاحب وصوت يملأه الانهيار. من كانت تقصد بسمة وهبة في البث المباشر عبر صفحتها الشخصية؟    هل تصمد اللقاحات أمام متحور كورونا الصيفي الجديد FLiRT؟    مع استمرار موجة الحر.. الصحة تنبه من مخاطر الإجهاد الحراري وتحذر هذه الفئات    عيار 21 الآن بالسودان وسعر الذهب اليوم الاحد 19 مايو 2024    «إزاي تختار بطيخة حلوة؟».. نقيب الفلاحين يكشف طريقة اختيار البطيخ الجيد (فيديو)    إيطاليا تصادر سيارات فيات مغربية الصنع، والسبب ملصق    استشهاد 3 فلسطينيين على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على رفح    نشرة منتصف الليل| الحكومة تسعى لخفض التضخم.. وموعد إعلان نتيجة الصف الخامس الابتدائي    محافظ بني سويف: الرئيس السيسي حول المحافظة لمدينة صناعية كبيرة وطاقة نور    بعد الانخفاض الكبير في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد بالمصانع والأسواق    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    الأرصاد الجوية تحذر من أعلى درجات حرارة تتعرض لها مصر (فيديو)    حقيقة تعريض حياة المواطنين للخطر في موكب زفاف بالإسماعيلية    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    مصطفى قمر يشعل حفل زفاف ابنة سامح يسري (صور)    حظك اليوم برج العذراء الأحد 19-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أصل الحكاية.. «مدينة تانيس» مركز الحكم والديانة في مصر القديمة    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    صاحب متحف مقتنيات الزعيم: بعت سيارتي لجمع أرشيف عادل إمام    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    حزب الله يستهدف عدة مواقع لجيش الاحتلال الإسرائيلي.. ماذا حدث؟    حماية المنافسة: تحديد التجار لأسعار ثابتة يرفع السلعة بنسبة تصل 50%    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    إجراء من «كاف» ضد اثنين من لاعبي الأهلي عقب مباراة الترجي    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    بعد ارتفاعه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19 مايو 2024    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    صرف 90 % من المقررات التموينية لأصحاب البطاقات خلال مايو    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    رغم تعمق الانقسام فى إسرائيل.. لماذا لم تسقط حكومة نتنياهو حتى الآن؟    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    إعادة محاكمة المتهمين في قضية "أحداث مجلس الوزراء" اليوم    مسلم يطرح أحدث أغاني ألبومه الجديد «اتقابلنا» (تعرف على كلماتها)    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي الأمريكي سيبحث مع ولي العهد السعودي الحرب في غزة    على متنها اثنين مصريين.. غرق سفينة شحن في البحر الأسود    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    مصرع شخص في انقلاب سيارته داخل مصرف بالمنوفية    أدعية مستحبة خلال مناسك الحج.. تعرف عليها    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأمير المتغلب.. دفاع عن المجتمع الإسلامي وثقافته السياسية (الحلقة الأخيرة)
نشر في الشعب يوم 22 - 01 - 2014

تحويل طاعتنا من الرئيس المنتخب إلى آخر عسكرى يحتمى بالدبابات .. واقعة لم تحدث فى تاريخنا ولم يفت بها أى عالم قبل الآن
أبو حنيفة يؤيد ثورة زيد بن على وقال إن خروجه ضاهى خروج الرسول يوم بدر ... لكنه تنبأ بأن أهل العراق سيخذلونه كما خذلوا جده الحسين
مدرسة الخوارج أصرت على أن جهاد الحاكم الظالم فريضة واجبة بغض النظر عن احتمالات النجاح أو الفشل
مدرسة الصبر ترى أن ظروف العصر الموضوعية لن تعطى أى احتمال لتنظيم ثورة مسلحة ناجحة يمكنها أن تأتى بحكام أفضل مما هو موجود .. لكنهم لم يقولوا إن الحاكم تجب طاعته
لقد مثل نظام الحكم الأموى، ثم العباسى انحرافا عن مبادئ الإسلام فى الحكم، وأئمتنا لم يخفوا هذا عن الأمة، بل ظلت كل فتاواهم وكتبهم تؤكد أن هذه ليست هى الطريقة الصحيحة لتولى السلطة، لقد كان ظهور «الخلفاء – الملوك» مؤذنا ببداية الانقسام الذى عرفه التاريخ الإسلامى بين رجال السلطة والحكم من ناحية، والفقهاء وعلماء الدين من ناحية أخرى، والذين ظل معيار نزاهتهم فى نظر عامة المسلمين هو بمقدار تباعدهم عن السلطة، حيث اضطلع هؤلاء العلماء بقيادة المعارضة
أبو حنيفة يهاجم الأمويين
.. فهذا أبو حنيفة يؤيد ثورة زيد بن على زين العابدين على الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك ويرسل إليه عشرة آلاف درهم، ويقول إن خروجه ضاهى خروج رسول الله (ص) ليوم بدر، وإنه لو علم باحتمال انتصاره لخرج معه، ولكن يغلب على ظنه أن أنصاره من أهل العراق سيخذلونه كما خذلوا جده الحسين .. والإمام مالك أفتى بعدم انعقاد أيمان المكره، فثار الناس على بنى العباس وخلعوا بيعتهم، وضرب مالك حتى خلع كتفه فما تراجع عن فتواه .. وشجع مالك الخروج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ضد المنصور العباسى، وأفتى أنها أفضل من حجة تطوع .. وعندما جمع المنصور العلماء يسألهم عن خلافته قال له أبو حنيفة: «إنما أردت أن تعلم العامة أنا نقول فيك ما تهواه مخافة منك، ولقد وليت الخلافة وما اجتمع عليك اثنان من أهل الفتوى، والخلافة تكون بإجماع المؤمنين ومشورتهم».
مدرسة الخوارج
وإذا استبعدنا مدرسة الخوارج التى أصرت على أن جهاد الحاكم الظالم فريضة واجبة بغض النظر عن احتمالات النجاح أو الفشل، سنجد مدرستين انقسم إليهما الفكر الغالب عند المسلمين، فقه أهل السنة والجماعة، اشترطت المدرسة الأولى لجواز الخروج المسلح أن يتوافر للخارجين من عناصر القوة ما يضمن لهم النصر، أو يجعله على الأقل الاحتمال الغالب، وهى التى أطلق عليها «مدرسة التمكن»، أما المدرسة الثانية فلا ترى أملا فى امتلاك القوة للتغيير، وتبحث عن أفضل الوسائل للضغط على الحكام القائمين لتغيير سلوكهم، وهى المدرسة التى سميت «مدرسة الصبر» .. لاحظ أن الكلام كله هو فى معرض البحث عن الموقف من الثورة المسلحة وليس عن الموقف من المعارضة، فكلهم يتفق على وجوب الإنكار باللسان مهما تعرضوا للعنت والاضطهاد.
التمكن من أسباب القوة الكافية
تشترط المدرسة الأولى ضرورة التمكن من أسباب القوة الكافية لتحقيق الهدف من الثورة، وإلا فإنهم يحرمون التهور والخروج المسلح دون إعداد كاف .. وقد ظهرت هذه المدرسة بعد الإخفاقات الكاملة التى انتهت إليها كل الثورات السابقة، والتى فسروا إخفاقها بأنه كان راجعا لافتقارها إلى الإعداد الكافى، ووضع هذا الشرط كان توسطا بين الرأى القائل بوجوب القتال متى ظهر الجور (رأى الخوارج)، والرأى الذى اعتقد بعدم جواز الدعوة لحمل السلاح ما لم تخرج السلطة عن الإسلام خروجا صريحا وتكفر كفرا بواحا، وإذا كان شرط التمكن هذا يبدو فى نظرنا الآن بديهيا لا يستحق أن تتبلور حوله مدرسة كاملة، فإن الأمر يغدو مفهوما إذا أدركنا أن مدرسة التمكن إنما كانت تقوم فى مواجهة فقه الخوارج الذى نادى بأن المسلمين يأثمون جميعا بعدم حمل السلاح فى مواجهة كل حاكم جائر مهما كانت الظروف، فردوا عليهم بأن المفسدة لا تقاوم بما هو أشد منها إفسادا، وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فلا إثم إذا لم تتوافر القدرة، مع التأكيد على وجوب السعى لتوفيرها ..
أبو حنيفة والثورة على الحاكم الظالم
وأعلام مدرسة التمكن الذين وضعوا أصولها كانوا غالبية المعتزلة، بالإضافة طبعا إلى رائدها الأصيل الإمام أبو حنيفة النعمان، وهذه المدرسة لم تر فى الثورة على الحاكم الظالم إلا جهادا يثاب المسلم عليه، وقتلى الثائرين فى نظر هذه المدرسة شهداء عند الله، بل من أفضل الشهداء، لكنهم أصروا على الموازنة بين الضررين، فرأوا أن الثورة بدون إعداد جيد هى فتنة وتهور يجب النهى عنه، أما بعد توفير الظروف والإمكانيات التى ترجح إزالة منكر الحكام الظالمين واستبدالهم بحكام صالحين فإن الخروج يكون من أفضل الجهاد .. ولم يقتصر المعتزلة على هذا الموقف الفكرى، فقد كانت لهم حركات خروج مسلح عديدة فى العهد الأموى ثم العباسى الأول، وبعض هذه الحركات اقترب فعلا من تحقيق أهدافه.
تنظيم ثورة مسلحة
أما مدرسة الصبر، فقد كان تقدير قادتها أن ظروف العصر الموضوعية لن تعطى أى احتمال لتنظيم ثورة مسلحة ناجحة يمكنها أن تأتى بحكام أفضل مما هو موجود، لكنهم لم يقولوا إن الحاكم تجب طاعته مهما كان وفى كل الأحوال، فقادة هذه المدرسة رفضوا الخروج العنيف، ولكن هذا كان لصالح المعارضة السلمية بصفة عامة، ولصالح العصيان بصفة خاصة كلما كانت المسألة تتعلق بأوامر محددة يطلب منهم تنفيذها ويرونها مخالفة للحق، فهذا سعيد بن المسيب، التابعى الجليل، والذى كان من أوائل الذين رفضوا حمل السلاح ضد الحكام، يتبنى موقف العصيان المدنى، ويرفض إعطاء البيعة لابنى عبدالملك بن مروان – الوليد وسليمان – ويصر على موقفه برغم الضرب والإهانة، والإمام أحمد بن حنبل لم يخلع يدا من طاعة الدولة، غير أن هذا لم يمنعه من رفض الاستجابة لطلب الخليفة فى مسألة خلق القرآن، فكانت محنته الشهيرة، أما الحسن البصرى، العلم الكبير لمدرسة الصبر، والذى عارض كل الثورات التى قامت فى عصره، لم يتردد رغم ذلك فى القول باغتصاب الأمويين للسلطة وتحويلها من «خلافة» إلى «ملك»، ولم يتوان فى إدانة جورهم وفضح مظالمهم، وعندما حاول البعض إيقافه بدعوى أن هذا نوع من الغيبة المحرمة أعلن أن المقام ليس مقام غيبة «فليس للفاسق غيبة، ولا لأهل الأهواء والبدع غيبة، ولا للسلطان الجائر غيبة» .. ونقل عنه ابن سعد فى طبقاته أنه «لا يحبذ الخلع إلا عند السلطان» .. يعنى عند وجود القوة والتمكن من إنفاذ الخلع، فالحسن البصرى لم يقف موقف الرفض المطلق من الثورة المسلحة، وإنما انصب كلامه على الواقع الذى عاصره، فرفضه للخروج ارتبط بتقديره لموازين القوى فى عصره، والتى رأى مع الكثيرين غيره أنها لن تسمح بنجاح أى حركة للخروج المسلح، وفى تقديرنا أن هذا هو محور الخلاف بين المدرستين، فأنصار التمكن كان يحدوهم الأمل فى تحقيق الشروط الموضوعية لثورة مسلحة ناجحة إذا أجادوا الإعداد.
الموقف من السلطة الغاصبة
سواء كنت من أنصار التمكن الذين يعملون على توفير القدرة اللازمة لتغيير النظام بالقوة، أو كنت ستكتفى بالمعارضة السلمية وممارسة الضغط الشعبى على الحكام ليغيروا أسلوبهم فى الحكم، فعليك أن تعترف بأن الوضع الحالى سيستمر لفترة من الزمن، فما هو الموقف الشرعى من هؤلاء الحكام الذين فرضوا أنفسهم على الأمة فرضا دون مشورة أو رضا؟ .. إنهم وحدهم الذين يمكن أن يسيروا الأمور فى الدولة، فبما ستحكم على ما يقومون به؟.. إذا أصدر الحاكم المتغلب أمرا لأحد أعوانه بقتل القاتل: هل يكون منفذ الحكم مقيما للحد الشرعى أم يكون قاتلا بدوره؟ .. إذا جمعوا الزكاة والخراج هل تبرأ ذمة المسلم ويكون قد أدى حق الله أم يكون ما دفعه مالا اغتصب منه وتظل الزكاة فى ذمته والخراج لم يسدد؟ .. هل القاضى الذى عينه الحاكم هو القاضى الشرعى الذى تنفذ أحكامه، فيجوز لمن يقضى له بالتعويض أن يقبضه ولمن يقضى بطلاقها أن تتزوج بآخر .. إلخ؟ .. وإلا فكيف يطبق المسلمون الشريعة؟
فرق الأئمة الأعلام فى القرن الثانى الهجرى
هنا فرق الأئمة الأعلام فى القرن الثانى الهجرى بين شرعية الحاكم فى نفسه وبين شرعية ما يصدر عنه وعن ولاته من أحكام .. إن ممارسة الحاكم للسلطة بغير مشورة المسلمين أو رضاهم يظل عملا غير شرعى يؤخذ على هذا الحاكم ويبوء بإثمه، ومجرد احتكار السلطة لا يضفى على المتغلب صفة خليفة رسول الله (ص)، فهو مجرد سلطان بحكم الأمر الواقع، فإذا وافقت أحكامه الشريعة فهى شرعية بالنسبة للمحكومين لا تثريب عليهم إذا أنفذوها، أما إذا خالفت الشريعة فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق .. سنجد هذه الفكرة متضمنة فى كثير من الفتاوى الجزئية والسلوك العملى لكل الأئمة، وربما كان أبو حنيفة هو الأكثر وضوحا عندما يفرق فى كلامه بين «الإمام بالحق» و«الإمام بالفعل»، فبينما نجد الخوارج وبعض الشيعة يعطلون نظام المجتمع المسلم كلية فى حالة عدم قيام «إمام بالحق»، فلا حج عندهم ولا جمعة ولا يتم أى عمل من أعمال المسلمين الجماعية، دينيا كان أو سياسيا، على نحو شرعى، نجد أبا حنيفة يقول إنه فى حالة عدم وجود «إمام بالحق» فإن حياة المسلمين الجماعية تمضى على نحو شرعى حتى لو كان عليهم «إمام بالفعل» إمامته غير شرعية .. ويوضح الجصاص رأى أبى حنيفة فى قوله: «ومن الناس من يظن أن مذهب أبى حنيفة تجويز إمامة الفاسق وخلافته .. فإنما جاء غلط من غلط فى ذلك، إن لم يكن تعمد الكذب، من جهة قوله [ أى أبى حنيفة] ..إن القاضى إذا كان عدلا فى نفسه فولى القضاء من قبل إمام جائر فإن أحكامه نافذة وقضاياه صحيحة، وإن الصلاة خلفهم جائزة مع كونهم فساقا، وهذا مذهب صحيح، ولا دلالة فيه على أن مذهبه تجويز إمامة الفاسق».
دويلات الأقاليم
وعندما وصلنا إلى العصر العباسى الثانى ازداد الأمر سوءا، لقد أصبحت الخلافة نفسها مجرد منصب رمزى لا سلطة فعلية له، وسيطر أمراء الجند من البويهيين على بغداد والعراق كله ليغدو الخليفة ألعوبة فى أيديهم، أما سائر الولايات فقد تراخت يد السلطة المركزية فيها تماما، فبرز فى كل إقليم قائد جمع حوله بعض الأتباع ليكون جيشه الخاص ويتولى السلطة، لا باعتباره خليفة للمسلمين ولكن على أنه أمير هذا الإقليم وصاحب السلطان فيه، ويظل يمارس كل سلطات الحكم وتتوارثها سلالته حتى يظهر أمير آخر أقوى يقصيهم لينشئ سلالة حاكمة جديدة، وكان الأمير المتسلط بالسيف هو الجهة الوحيدة القادرة على فرض الأمن والنظام وتنفيذ الأحكام فى إمارته، وعلى الفقهاء أن يختاروا: إما الاعتراف بشرعية السلطة الفعلية للأمير المتغلب ما دام يعلن التزامه بحكم الشريعة أو إعلان عدم شرعيته فتنهار من ثم أمة الإسلام نفسها .. ويشرح الإمام أبو حامد الغزالى (450-505 ه/ 1058-1112 م) والذى عاصر بدايات الاحتلال الصليبى هذا الوضع فيقول: «ليست هذه مسامحة من الاختيار، أى اختيار الإمام الصالح، ولكن الضرورات تبيح المحظورات، فنحن نعرف أن تناول الميتة محظور، ولكن الموت أشد منه، فليت شعرى من يقضى ببطلان الإمامة فى عصرنا لفوات شروطها، وهو عاجز عن الاستبدال بالتصدى لها، بل هو فاقد للمتصف بشروطها، فأى أحواله أحسن من أن يقول: القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة فى أقطار العالم غير نافذة، وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام، أو أن يقول: الإمامة منعقدة والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار..»
العجز عن توفير بديل شرعى
فى ظل العجز عن توفير بديل شرعى كان إنكار سلطة المتغلبين بالسيف يعنى انفراط عقد الأمة تماما، خاصة وقد كانت هذه القرون هى قرون الغزو الصليبى ثم التترى، وقد كان لهؤلاء الأمراء بلاؤهم العظيم فى مقاومة هذه التهديدات الخطيرة (فى هذه الفترة ظهر نور الدين وصلاح الدين وقطز وبيبرس .. إلخ، ولم تكن هناك طريقة أخرى كى يتصدوا بها للقيادة فى ظل انهيار تام فى مركز الخلافة إلا أن يفرضوا أنفسهم على الخليفة فرضا) .. لقد كان هدف الفقهاء هو تهيئة الجو السياسى لقبول حكومة قوية قادرة على دفع المعتدين، وإسباغ الشرعية الإسلامية على سلطتها لتوفير الدعم اللازم جماهيريا، وفى ظروف تهديد المغول – بل دخولهم فعلا – دمشق، قال ابن تيمية، وله كل العذر فيما ذهب إليه: «لو تولى من هو دون هؤلاء الملوك الظلمة لكان ذلك خيرا من عدمهم».. ولم ينظر مؤرخو الفكر السياسى الإسلامى للملابسات التاريخية التى أعلن فيها هذا الرأى، ولا إلى الأخطار الجسيمة التى كان هؤلاء الأمراء المتغلبون يسعون لمواجهتها، فأخذوه على ابن تيمية، ثم زادوا واعتبروه واحدا من مبادئ الفكر السياسى الإسلامى .. مع أن قبول الاستبداد السياسى لم يتم إلا باعتباره أهون الشرين، مع الإصرار الذى لم يكل على طلب الحكم العادل.
الملك الذى ورث الحكم
وفى كلتا الحالتين، حالة الخليفة – الملك الذى ورث الحكم، وحالة الأمير المتغلب الذى فرض أمرا واقعا بالسيف، اشترط العلماء أن يكون الحكم بالشريعة، وأن ينزل الحكام على اجتهادات الفقهاء، وقد استجابوا كلهم لهذا الشرط بصفة عامة، ما لم يتعرض العلماء لسلطانهم السياسى، باستثناء بعض التصرفات المالية التى جهر العلماء بمعارضتها .. لقد كان الأمر واضحا على الدوام، ولم يقل أحد من العلماء الكبار أبدا إن أيا من هؤلاء المتغلبين بالسيف قد تولى سلطته بالطريقة التى أوصت بها الشريعة، ولا أنه تجب طاعته بموجب أى نص من نصوص الوحى، فالماوردى مثلا يتكلم عن إمارة الاستيلاء وأحكامها «المعقودة عن اضطرار، لتبنى حكم الاضطرار على حكم الاختيار، فيعلم الفرق بينهما من شروط وحقوق»، والنووى يقول فى شأن سلاطين المماليك: «اسمع وأطع للأمير [بعد أن أفاض فى أن السمع والطاعة لا تجب فى المعصية] حتى لو كان عبدا أسود مقطوع الأطراف فطاعته واجبة، وتتصور إمارة العبد لو ولاه بعض الأئمة، أو إذا تغلب على البلاد بشوكته وأتباعه، ولا يجوز ابتداء عقد الولاية له مع الاختيار، بل شرطها الحرية» .. كانت الفتاوى واضحة فى أنه حكم الضرورة .. ولاحظ أن هذا كله كلام عن أسلوب الوصول للسلطة، لكن علماؤنا لم يقدموا أية تنازلات فيما يتعلق باشتراط أن يلتزم الحكام والقضاة بأحكام الشريعة.
إن فتاوى علماء العصر الوسيط ليست هى المبادئ التى طلب منا الإسلام السعى لتحقيقها، وهم أنفسهم لم يزعموا لها ذلك، إنها كانت فتاوى فى ظل وضع قائم بالفعل لم يكن فى وسع الفقهاء تغييره، لقد أعلنوا بكل صراحة ووضوح أنه وضع خارج عن النموذج الإسلامى لتعيين الحكام ولممارسة السلطة، لكنهم عاجزون عن مواجهته، وهم يفتون الناس بأنسب الطرق التى غلب على ظنهم أنها ملائمة للتعامل مع هؤلاء الحكام المتغلبين بالسيف والقائمين بالأمر بحكم الواقع .. طاعة الأمراء واجبة فى غير معصية، وهى حرام فى المعصية.
النتائج
أولا: لا حجة فى الفتاوى القديمة
لا بد أن القارئ قد لاحظ بنفسه أن الظروف التاريخية التى صدرت فيها فتاوى طاعة المتغلب قد انقضت، ولم يعد هناك ما يضطرنا لإرغام الناس على طاعة من لم يحترم إرادتهم ووصل إلى السلطة بالقوة، ففى ظل الدولة الحديثة انفصلت تماما وظيفة الدولة عن شخص الحاكم، فهناك قوانين ولوائح وإجراءات مستقرة تنظم حياة الناس، والموظفون العموميون يظلون يتمتعون بسلطاتهم القانونية بمعزل عن رغبات الحاكم، ولا خطر على حياة المسلمين الجماعية من رفض المجتمع لسلطة رجل معين طالما ظل المواطنون يخضعون للقوانين ويؤدون للدولة ما عليهم، والموظفون العموميون يقومون بوظائفهم، ثم إن هناك آليات متعددة لحماية الدولة من التفكك بدون الحاجة لطاعة كل من سطا على الحكم .. كاتب هذه السطور لا يدعى لنفسه الوصول لمرتبة الاجتهاد حتى يقدم للناس فتوى بديلة، ولكن كل من له معرفة عامة بأصول الفقه يعلم أن تغير الزمان والمكان والمحل يجعل الاستناد إلى فتاوى قديمة عملا لا يمت للفقه بنسب.
ثانيا: عدم الاعتراف بشرعية المتغلب فى زماننا لا يعنى الخروج من طاعة الدولة
- حتى لو لم تسلم معنا بعدم حجية فتاوى الأقدمين بعد تغير الظرف التاريخى، فإن فتاوى سلفنا الجليل لم تكن ترى أن الطاعة تعنى عدم المعارضة أو السكوت عن المنكر، فما الفرق بين موقف الرافضين لتعديل الدستور وبين موقف الإمام أحمد بن حنبل الذى رفض طلب الخليفة المأمون بالقول بخلق القرآن؟ .. لم يعلن الإمام أحمد رفضه لطاعة الدولة العباسية، ولكنه قال إن طلب الخليفة لا يستند لأى أساس شرعى وأعلن رفضه له، ونحن نقول إن هذا الذى عطل الدستور وشكل لجنة لتعديله أو لكتابة دستور جديد لا يستند لأى أساس شرعى، ونحن نرفض الاعتراف بدستوره، ونذكر مشايخ آخر زمن أن التشريع لم يكن أبدا داخلا فى نطاق سلطة الأمير، سواء كان مختارا بالشورى أم كان متغلبا .. وما الفرق بين رفضنا للرئيس المعين من الانقلابيين ورفض الإمام أبى حنيفة الاعتراف للمنصور بأنه خليفة رسول الله (ص)؟! .. وما الفرق بين عدم انصياعنا لبعض أوامر الحكومة التى لم يخترها الشعب (قانون منع التظاهر) وبين رفض التابعى الجليل سعيد بن المسيب لأمر عبد الملك بن مروان بإعطاء البيعة لولديه الوليد وسليمان ؟! .. نحن ما زلنا نحترم الدولة المصرية ونحترم قوانينها المحترمة، ونتبع نظامها فى السفر وفى المرور وفى البناء، ونذهب لأعمالنا ونخدم الجماهير .. إلخ .. لم نرفض طاعة الدولة التى أراد أصحاب فتاوى طاعة المتغلب أن يطيعها المسلمون.
-أما المظاهرات والاعتصامات وكل صور الاحتجاجات السلمية فهى حق للمواطنين طبقا للقانون، وممارستها ليست خروجا على طاعة الدولة، وإنما على العكس: محاولة الانقلابيين تعديل القوانين لسلب الأمة حقها هى التى تعد عدوانا على الدولة.
ثالثا: لم يحدث أن أفتى أى عالم بطاعة من يتغلب على ولى الأمر الشرعى وينازعه سلطته، والانقلابيون ليسوا هم المتغلبون الذين صدرت لهم الفتاوى.
لا توجد فتوى واحدة، واحدة فقط، لأى فقيه كبيرا كان أو صغيرا، مشهورا كان أو مغمورا، تطلب من المسلمين طاعة أمير تغلب على ولى أمر شرعى وأزاحه عن السلطة بالقوة، ونتحداهم أن يجدوا لنا فتوى واحدة بذلك.. ببساطة لأن هذه الحالة لم تحدث أبدا .. كل المتغلبين فى تاريخنا أزاحوا عن السلطة حاكما كان هو بدوره متغلب، لذلك تعرضت الفتاوى لطاعته ولم تتكلم عن نصرته .. لنوضح ذلك.
- واجب المواطنين تجاه ولى الأمر الشرعى الذى وصل للحكم بالشورى والرضا هو الطاعة والنصرة، ويدخل فى النصرة الوقوف معه ضد من يحاول أن يغتصب منه السلطة، أما الحاكم المتغلب الذى وصل بالقوة فإنه موكول إلى قوته للحفاظ على سلطته، وإذا قام من ينازعه فالرعية ليست مطالبة بنصرته، ويكون الحكم لمن غلب منهما، وكلاهما متغلب على أى حال، يطاع ما أطاع الله ورسوله، فإن خرج عن الشريعة فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.. هذه هى فتاوى العلماء الذين تناولوا حكم الأمير المتغلب بالسيف.
- وفى تاريخنا لم يحدث أن وصل حاكم للسلطة بأن تغلب على ولى أمر شرعى، ولنبدأ من البداية، من الصراع بين على ومعاوية. لقد رفض معاوية بن أبى سفيان بيعة على بن أبى طالب رضى الله عنه تأسيسا على أن المطلوب هو القصاص لعثمان أولا قبل تنصيب الخليفة، وعلى كل فإن أغلب العلماء أجمعوا على أن معاوية فى صراعه مع على كان باغيا، لكن معاوية لم يتغلب على على وانتزع منه الخلافة، إنما قام الخوارج باغتيال على كرم الله وجهه، ثم تم الصلح بين الفريقين على أن يتولى معاوية الخلافة، ثم يليه فيها الحسن بن على رضى الله عن الصحابة أجمعين. وبذلك فإن معاوية قد غدا بعد عام الجماعة أميرا للمؤمنين برضا الجميع.
- فرض معاوية ابنه يزيد، وتوالت وراثة المنصب دون شورى أو رضا، فكانوا كلهم متغلبين باستثناء عمر بن عبد العزيز الذى أحل الناس من بيعته كولى عهد لسليمان بن عبد الملك فاختاره الناس برضاهم، لكنه توفى دون أن يعهد لأحد، ففرض هشام بن عبد الملك نفسه وعدنا لوراثة المتغلبين بعضهم بعضا، فلما أسقط العباسيون حكم بنى أمية فإنما كانوا متغلبين حلوا مكان متغلبين، وكان هذا هو الحال حتى سقوط الخلافة العثمانية.
ففتاوى طاعة المتغلب تنطلق من أنه لم ينتزع الخلافة من ولى أمر شرعى، فهو إما انتزعها من آخر متغلب، أو فرض نفسه حال خلو المنصب. أما أن يطلب منا أحد تحويل طاعتنا من الرئيس المنتخب إلى آخر معه دبابة فواقعة لم تحدث أبدا فى تاريخنا ولم يفت بها أى عالم قبل الآن.
هدانا الله وإياكم وبرهامى وشيعته للحق والرشاد..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.