قرار زيادة الأجور في مصر خطوة على طريق طويل، ليس سالكا ولا ممهداً بالضرورة، لذلك فإنه ينبغي أن يستقبل بترحيب حذر.
(1) شاءت المقادير أن يستدعى إلى بيتنا الأسطى رجب سباك العمارة بعد ثلاثة أيام من إعلان الزيادة، وبعد أن أدى عمله في عشر دقائق طلب تسعين جنيها أجرة له. ولأننا من زبائنه ولنا خبرات سابقة معه، فقد سألته عن سبب مبالغته في الأجر، فرد عليّ بابتسامة غير بريئة ارتسمت على وجهه، وقال: مبروك عليكم العلاوة يا باشا. ورغم أنني لست من المستفيدين من العلاوة، إلا أنني عذرته ووجدت وجاهة في منطقه. فهو واحد من الحرفيين الذين يعملون لحسابهم، ويشتركون مع غيرهم في الشكوى من قسوة الغلاء وثقل أعباء الحياة المتزايدة. ولا يجدون سبيلا إلى حل مشكلتهم إلا برفع أجورهم، وقد وجد الأسطى رجب في قرار زيادة أجور الموظفين بنسبة 30% فرصة مواتية لرفع أجره بدوره. ولست أشك في أن أمثاله من الحرفيين والمهنيين سيفكرون بنفس الطريقة، إذ سيعتبرون أن من حقهم أيضا أن يرفعوا من أجورهم في هذه الحالة. بالتالي فإن ما فعله السباك سيفعله الكهربائي والنجار والمكوجي وغيرهم من أصحاب المهن والحرف. (قرأت في إحدى صحف السبت الماضي أن أسعار الزيوت والألبان والدقيق ارتفعت بعد اعلان القرار)، الأمر الذي يعني أن الزيادة المفترضة ستطلق موجة جديدة من ارتفاع الأسعار. وستذهب إلى ذلك الطابور الطويل من أصحاب الحرف والمهن والتجار.
الأسطى رجب وأمثاله يدخلون ضمن قوة العمل في مصر التي تضم 21 مليون شخص حسب إحصائيات البنك المركزي. والزيادة المعلنة ستصرف بالدرجة الأولى إلى موظفي الحكومة والقطاع العام، الذين لا يزيد عددهم على خمسة ملايين وربع مليون شخص. وذلك يعني أن الزيادة ستصرف إلى حوالي 25% فقط من قوة العمل، في حين أن 75% من العاملين في القطاع الخاص ستظل معاناتهم من الغلاء مستمرة. صحيح أن دائرة المستفيدين من الزيادة سوف تتسع قليلا إذا رفعت أجور عمال المحليات وأصحاب المعاشات، إلا أن ذلك لن يحدث تغييرا جوهريا في الصورة الكلية.
(2) للإنصاف فإننا نظلم صاحب القرار إذا ما طالبناه بأن يحل مشكلة الغلاء وينهي معاناة الناس مرة واحدة من خلال فرمان يصدره. لأنه في هذه الحالة لن يختلف كثيرا عن الدارس الذي تغيب عن الجامعة طول العام، فلم يحضر محاضرة ولا اشترى كتبا، ثم سهر في ليلة الامتحان متوقعا أن ينجح، متجاهلا أن النجاح له شروط يجب استيفاؤها قبل دخول الامتحان. بكلام آخر فإن معاناة الناس لم تحدث بين يوم وليلة، وإنما هي نتيجة تراكمات واختلالات عدة تجمعت عبر عدة سنوات وأدت إلى هذه النتيجة، وخلال تلك السنوات فإن السياسات التي اتبعت أسهمت في زيادة تلك المعاناة وتوسيع نطاقها.
قبل أن أضرب أمثلة لما أدعيه فإنني أريد أن أتوقف لحظة أمام مسألة الأسعار العالمية التي يلوح بها البعض في كل مناسبة يثار فيها موضوع الغلاء. ذلك أن ارتفاع تلك الأسعار حقيقة لا شك فيها، وفي العام الحالي بوجه أخص فإن أسعار المنتجات الزراعية زادت بشكل ملحوظ، وهو ما وصفته مجلة «الإيكونوميست» (عدد 19/4) بأنه «تسونامي صامت»، تشبيها بالإعصار الذي دمر شواطئ جنوب شرق آسيا منذ 4 سنوات. وتحدث تقرير المجلة عن صدمة العام الماضي، حين زادت أسعار القمح بنسبة 77% والأرز بنسبة 16%، إلا أن المفاجأة كانت أكبر مع بداية العام الحالي، حيث ارتفعت أسعار الأرز بنسبة 141% وارتفع سعر أحد أنواع القمح بنسبة 25% خلال يوم واحد، وقالت المجلة إن عصر الطعام الرخيص قد انتهى، وأن إعادة التوازن إلى أسعار الحاصلات الزراعية تحتاج إلى فترة تتراوح بين 10 و15 سنة. الأمر الذي يعني أن العالم -النامى بوجه أخص- سيعاني من ويلات كثيرة خلال تلك الفترة.
مثل هذه الزيادات في الأسعار تصيب بالوجع الشديد ثلاثة أصناف من الدول، الأولى هي الدول غير الزراعية، والثانية هي الدول الزراعية التي فشلت سياساتها في توفير احتياجات الناس، أما الدول الثالثة فهي غير المنتجة التي لا تتمكن من تصدير سلعها إلى الخارج بالأسعار العالمية المرتفعة، الأمر الذي يخفف من وطأة استنزاف مواردها إذا ما استوردت من الخارج سلعا أخرى بذات الأسعار المرتفعة.
بالنسبة لمصر، فإنها تدخل في التصنيفين الأخيرين، فهي لم تستطع توفير احتياجاتها من الحبوب (الهند فعلتها رغم أن تعداد سكانها تجاوز المليار نسمة)، إضافة إلى أن الرقعة الزراعية تراجعت خلال الثلاثين سنة الأخيرة بمقدار مليون فدان، كما يقول الخبراء، وهي مساحة تم تجريفها وتحويلها إلى مناطق سكنية. من ناحية ثانية فإن عجلة الإنتاج في مصر شبه متوقفة، ولم يعد التصدير يشكل أحد مصادر الدخل في الموازنة العامة.
(3) حسب الجدول الذي أعلنته وزارة المالية، ونشرته صحف الجمعة 2/5، فإن أعلى نسبة للزيادة في الأجر (التي ستصرف لوكيل أول الوزارة) ستصل إلى 180 جنيها شهريا، أما موظف الدرجة السادسة (الأدنى) فسوف يزيد راتبه 38 جنيها، ولست واثقا من أن هذه الزيادة الاستثنائية يمكن أن تخفف من وطأة معاناة العاملين من الغلاء، خصوصا أن نسبة الزيادة في الأسعار وصلت إلى 48% هذا العام كما يقول الخبراء، وفي الوقت ذاته فإن تواضع المبالغ التي ستضاف إلى الدخول راجع إلى أن الزيادة تم احتسابها على الرواتب الأساسية وليس على الأجور الحقيقية التي سيتقاضاها العاملون كل شهر، وهذه مسألة تحتاج إلى بعض الشرح.
ذلك أن بند المرتبات الأساسية في ميزانية السنة المالية الحالية (2007/2008) يقدر بمبلغ 14.6 مليار جنيه لجميع العاملين، وهذا المبلغ هو الذي بنيت على أساسه الزيادة. لكن هناك بندا آخر للمكافآت يقدر بمبلغ 19.3 مليار جنيه (منها 3 مليارات مكافأة للجهود غير العادية!) لم يدخل في حساب الزيادة.
إذا لاحظت أن المكافآت تزيد على الأجور الأساسية بحوالي 5 مليارات جنيه، فلابد أن تلاحظ أيضا أن المكافآت لا تصرف لكل الموظفين، وإذا صرفت فإنها لا توزع بنسبة واحدة، وإنما يستأثر كبار الموظفين بالقسط الأكبر منها، مما أحدث فجوة هائلة في الدخول بين صغار الموظفين وكبارهم، فسحق الصغار بينما تضاعفت دخول الكبار بحيث تجاوزت الحدود المعقولة. وللعلم فإن النسبة العالمية المتعارف عليها بين الحد الأدنى والأعلى للأجور تتراوح بين 10 و15 ضعفا. بمعنى أن راتب رأس أي جهاز لا ينبغي أن يزيد على راتب أصغر موظف فيه بأكثر من 10 أو 15 ضعفا. أما في مصر فإن مرتبات الكبار كثيرا ما تجاوزت ألف ضعف مرتبات الصغار في الوزارة أو المؤسسة الواحدة.
هذا الخلل الفادح في هيكل الأجور بمثابة حكم بالفقر الأبدي على صغار العاملين وبالإثراء والتميز غير المبررين لصالح كبارهم. واستمرار الخلل يعني استمرار الفجوة، ومن ثم استمرار المعاناة التي ينبغي أن تعالج باصلاح الخلل الأساسي، في حين تظل العلاوات مجرد مسكنات تهدئ الخواطر وتعبر عن حسن النية بأكثر مما تعبر عن المواجهة الحقيقية للمشكلة.
فضلا عن الخلل الفادح في هيكل الأجور، فإن التراجع في مستوى الخدمات يحمل الناس بأعباء تقصم ظهورهم ولا قبل لهم بها، حتى أزعم أن تحسين تلك الخدمات من شأنه أن يخفف من معاناتهم بأكثر مما تقوم به العلاوات، فانهيار التعليم مثلا دفع الأهالي إلى إلحاق أبنائهم بالدروس الخصوصية، والكل في مصر يعرفون أن نسب الغياب عن المدارس في النصف الثاني من العام الدراسي تتراوح بين 40 و70%؛ لأن الطلاب لا يجدون جدوى من الذهاب إلى المدارس في هذه المرحلة التي تسبق الامتحانات؛ لذلك فإنهم يستذكرون دروسهم في الصباح، ويتلقون الدروس الخصوصية في المساء، ومتوسط أجر الحصة الواحدة من الدرس الخصوصي في الثانوية العامة يتراوح بين 80 و100 جنيه، أما المراحل التي دون ذلك فمتوسط أجر الحصة يتراوح بين 40 و60 جنيها، وإذا قلنا إن الطالب يتلقى تلك الدروس مرتين أسبوعيا في ثلاث أو أربع مواد، وأن في الأسرة اثنين من الأبناء، فمعنى ذلك أن تعليم الاثنين يكلف الأهل ما لا يقل عن أربعة آلاف جنيه شهريا (لاحظ أن الراتب الشهري الأساسي لوكيل أول الوزارة هو 600 جنيه)، ولك أن تتصور مدى الوفر والراحة اللتين يمكن أن تستشعرهما الأسرة لو أصبح لدينا تعليم حقيقي أزاح عن كاهلها عبء الدروس الخصوصية وحدها، او ما لم يضطرها إلى إلحاق أبنائها بالمدارس الخاصة باهظة التكلفة. وما ذكرته عن التعليم يسري على أوجه الخدمات الأخرى، خصوصا ما تعلق منها بالعلاج والإسكان، الأمر الذي يدلل على أن تخفيف المعاناة له مصادر أخرى وثيقة الصلة بالسياسات المتبعة، وهي أكثر فاعلية ولا علاقة لها بالضرورة بارتفاع الأسعار العالمية.
(4) من أين تمول تلك الزيادة الاستثنائية في الرواتب؟
سألت من أعرف من أهل الاقتصاد وخبرائه فكان كل منهم حريصا على أن يؤكد أن الزيادة الحقيقية والآمنة في الدخول تتحقق من خلال زيادة الإنتاج. لكن السياسات المتبعة لا توفر هذا الحل سواء بعد بيع وحدات القطاع العام أو تراجع حجم الاستثمار في الموازنة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من 14% إلى 9.8% إلى 7% في موازنة السنة المالية القادمة. وأمام الحكومة بعد ذلك خياران لا ثالث لهما، أولهما فرض ضرائب جديدة توفر دخلا إضافيا للموازنة، والثاني الاقتراض عن طريق طبع المبالغ المطلوبة من البنكنوت وضخها في السوق، بما يستصحبه ذلك من آثار تضخمية كبيرة تفاقم من الغلاء وتضاعفه. وأقل الخيارات ضررا هو فرض ضرائب جديدة، شريطة أن يتحمل عبأها القادرون من ذوي الدخول المرتفعة، علما بأن ذلك قد يخفف من حدة المشكلة ولن يحلها؛ لأن الحل الجذري والحاسم لأزمة الغلاء -أكرر- يتمثل في العمل الجاد من أجل زيادة الإنتاج في الكم والنوع، وتلك هي الرسالة التي يبدو أن الحكومة لم تتسلمها حتى الآن، ومن ثم جاءت علاوة الثلاثين في المائة لتصبح تدخلا جراحيا عاجلا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان. وهذا التدخل لا يلغى الحاجة الملحة الى اعادة النظر فى السياسات المتبعة التى ترد للانتاج اعتباره، لان ذلك من ضرورات استيفاء الشروط المطلوبة للنجاح فى مواجهة التحدى الذى اذل العباد وارهق البلاد. عن الشرق القطرية