عندما يلتفت أحدنا إلى الوراء، و بالضبط منذ يوم 3 يوليو الماضي، تاريخ بداية عمل الانقلابيين بما عرف بخارطة الطريق، يجد أن زاوية انحراف كبيرة قد اتسعت بين ما جاء في بنود الخارطة و ما جرى بعد مائة يوم فقط من حكم الهيئة الانقلابية. و عليه، المقاربة التي تأخذ بأن اللاحق يفسر السابق سوف تساعد من كان يعتقد أن يوم 3 يوليو هو ثورة ضد الإخوان، أما اليوم فإنه يجب أن يعي أن ذلك اليوم هو انقلاب ليس على المؤسسات الشرعية و مصادرة للعصر الديمقراطي في مصر فحسب، بل هو انقلاب على المصطلح ذاته، عندما أضيف له الحشد الشعبي لتبريره، و أنه انقلاب على خارطة الطريق التي صارت تعني صراحة انحراف عن جادة الطريق. أما الذين كانوا يدركون أن ما أقدم عليه الجيش في ذلك اليوم هو انقلاب ليس بمعنى ما و إنما بكل المعاني، لأنهم كانوا يعرفون أن تدخل الجيش بتلك الصورة هو تعبير عن تخلّف مروِّع في المؤسسة العسكرية، عندما أقحمت نفسها في السياسة و استحوذت و استولت على الحياة العامة، و تحوّلت من ثم إلى"نظام" يتصرف ليتحمل الفعل و رد الفعل، و يعبّر في المطاف و التحليل الأخير عن السلطة المطلقة. الصورة بدأت تتضح، في سياق الأحداث و الحوادث المتوالية، عندما تلاعب الجيش بشعار يوم 30 يونيو الداعي إلى تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة، و سارع بعد ثلاث أيام إلى اعتقال الرئيس المنتخب و تعطيل كافة المؤسسات المنتخبة و حلّها، وسوّق بدلا من ذلك خارطة الطريق كخيار و بديل عن نظام الحكم الديمقراطي الناشئ مع تيار الإخوان. خَطْف الإرادة الشعبية على هذا النحو هو تصرف غير مشروع إطلاقا و لا يمكن أن ينتج أي شرعية مهما ادّعى الإنقلابيون عكس ذلك، و لعّل الإنقلاب على خارطة الطريق هي أبرز ما يؤكد ذلك و يؤكد من ثم أن الطريق الانقلابي هو واصل إلى مداه الذي لا يحيد عنه إطلاقا، و نقصد الحرب الأهلية التي يظهر فيها النظام العسكري يواجه من يزاحمه المجال الذي احتكره بقوة السلاح أي الاستثمار التجاري و المالي في محاربة الإرهاب. فماذا بقي من خارطة الطريق ؟ غني عن البيان أن خارطة الطريق هي إجراء عسكري بامتياز، من حيث الأصل و السياق و النهاية، بمعنى أنها خارطة عسكرية و إن توسلت السياسة أو حاولت أن تتنكر لذلك، لأن التنكر و التدليس و التستر على الحقائق هي جزء أساسي من سياسة الإنقلاب من حيث الشكل و المضمون و المرمى. و لعلّ ما يبرز سياسة التدليس و التستر و المواراة هو تعليق مبرر الإنقلاب على وهم انقسام الشعب و إبعاد شبح الحرب الأهلية، و هذا بالضبط ما حققته السلطة العسكراتية عندما قسمت الشعب إلى فصيل مؤيد للإنقلاب و فصائل أخرى معارضة له، أما الحرب الأهلية فهي تجري لمن يحسن النظر، في مستواها الأدنى و تعبّر عن نفسها في إرهاصتها الأولى، و للتأكد من ذلك يحاول الواحد منّا أن يجمع كل الأحداث و الوقائع التي تجري كل اليوم كما تنشرها كل الصحف لكي يتأكد أننا فعلا بصدد بداية حقيقية لحرب أهلية يرفض الإنقلابيون و من معهم من المعادين للإخوان، أن يصدقوا ذلك ما دام الحرب الأهلية لم تصل بعد إلى صورتها المكتملة. جاءت حيثيات خارطة الطريق بعموميات افترضت حالات و وضعيات، سوّغت بها الطغمة العسكرية اغتصاب السلطة و سرقة الدولة من أهلها الشرعيين،كما أقرت بذلك الانتخابات التي جرت طوال 2012، 2013. فالقوّات المسلحة، على غير ما جاء في بيان الإنقلاب، لم تتوقف عن التدخّل و التوغّل في المجال العام و الشأن الذي يعني كل المصريين، و هي تفعل ذلك ليس استنادا إلى المنطق السياسي بقدر ما تستوحي تصرفها حصرا من قوتها العسكرية لتتعامل مع حرب مفترضة ضد الإرهاب، و معارك وهمية تخلق خلقا كما لاحظ الجميع طوال الشهور الثلاثة الأخيرة. تعطيل العمل بالدستور، كما جاء في البيان الانقلابي، يعني في ضوء ما خلّفه حكم العسكر، تعطيل كافة المؤسسات و شل الإرادة الشعبية، بعد ما استند عليها الجيش في الوصول إلى الحكم. أما الإدعاء بأن هذا التعطيل هو تعطيل مؤقت ريثما يُعَدّ دستور آخر للبلاد، هو أيضا إدعاء قائم على وهم و افتراض يقصد به تكريس حالة الاستثناء و العارض و الطارئ عبر تقنينها في الدستور. فاللجنة التي عيّنت لصياغة الدستور الجديد هي من طيف واحد هو الطرف الانقلابي و إن تفاوتت مواقفه، الذي يشرع ضدّا على التيارات الأخرى المناهضة للانقلاب، و لا يمكن أن يدعي أنه يخاطب الشعب المصري، لأن الحالة الانقلابية تأبى التشريع العادي و الطبيعي، و من ثم، فالمؤقت الدائم هو الذي سوف يكرّسه الدستور الإنقلابي. إعداد دستور للحكم الانقلابي، يستدعى بالضرورة حالة الطوارئ، ثم لا يلبث أن يقننها في الدستور كوضع عادي يستند إليه لإضفاء الشرعية على كل تصرفاته مهما كانت، على ما يفعل اليوم مع قانون التظاهر و قانون مكافحة الإرهاب، حيث بدأ العمل بهما قبل أن يسعى إلى إصدار التشريعات المتعلقة بهما لكي يستند إلى شرعية أوجدها عنوة و ضد إرادة الشعب. و هكذا، تكون السلطة الانقلابية قد صادقت على حالة الطوارئ و نقلتها من إجراء رئاسي اتخذ عقب مجزرة رابعة و النهضة إلى "قانون" مشروع و عادي، يجب أن يتعوّد عليه المجتمع. وواضح تماما أن مثل هذا التصرف هو الذي يحكم كل السياسة الانقلابية بالعبث و اللامعقول و المفارق للعصر. و الوجه المقابل لهذا التصرف هو دائما تغييب الديمقراطية و الوضع العادي و الإستقرار و هي الاعتبارات و الظروف التي تقتضيها مشاريع التنمية. إن صياغة و كتابة دستور، في سياق حالة طوارئ، المقصود به خطف الوقت و استعجاله لكي تفصَّل الوثيقة الأساسية على مقاس السلطة العسكرية و تباشر استثمارها "الشرعي" في مجال صد المظاهرات و مكافحة الإرهاب. كما أن الوجه الآخر لفرض دستور يتم إخراجه في ظل حالة الطوارئ و تحت رعاية قصوى "للقوات المسلحة" هو اعدام للدستور كقيمة سياسية و مؤسسة اعتبارية و وثيقة ديمقراطية تساوق و تساير التاريخ الحديث و المعاصر. و هكذا، فتعطيل الدستور، كما بادر إلى ذلك الإنقلابيون، هو تعطيل العمل به طوال وجود حكم العسكر، حتى و لو ظهر دستور آخر، لأنه يكون قد أجهز على كل مقومات الدستور، بحيث يعبر عن "دستور مضاد" للدستور. و يكون من مهام "الدستور المضاد" هو إجبار المجتمع على التعود و التعاطي العادي مع الأوضاع غير العادية، و الذي سوف يؤمن له هذه المهمة هو الإعلام المخاتل الذي لا يستند إلى أخلاقيات و لا إلى ميثاق شرف، و حتى الميثاق الإعلامي المرتقب لن يكون إلا إحكام صورة نمطية من المشهد الانقلابي و ترويجها للرأي العام إلى أن يسلّم بأنها "صورة صحيحة"... لكن ؟ الحقيقة أن خارطة الطريق هي خارطة رام من خلالها الإنقلابيون إلى إعدام مستقبل المصريين و الخروج بهم من الوضع العادي إلى الحالة الاستثنائية، أي تغيير الزمن التاريخي الذي لن يرجع إلا بالنظام الديمقراطي، الشرط اللازب لأي محاولة تنمية سليمة تتجاوب مع لحظة العصر. فعندما تنص "خارطة المستقبل" على أنها " تتضمن خطوات أولية تحقق يناء مجتمع مصري قوي و متماسك لا يقصي أحدا من أبنائه و تياراته و ينهي حالة الصراع و الانقسام"، فإن ما تم فعلا خلال المائة يوم من حكم العسكر هو العكس تماما، التي كانت كافية لإقصاء الإخوان و زرع الكراهية و بذور الفتنة ضدهم، و هم من أبناء مصر و تياراته، فضلا على توسيع دائرة الاغتيال و القمع و الاعتقال ضد دعاة الشرعية و مناهضي الإنقلاب إن في الآن أو في المآل. و في التحليل الأخير، توضيحا للزمن الطارئ العادي و المقنن، و لزمن العبث السياسي في مصر، فإن العصر الديمقراطي يتحول إلى رجاء لا يمكن أن يتحقق إلا بانقلاب مضاد... * أستاذ باحث و كاتب - الجزائر