خلال خمسة أيام فقط من الأسبوع الماضي، كان الجيش الإسرائيلي، المسكون بمرارة الإهانة البالغة التي أوقعها به المقاتلون اللبنانيون قبل عام ونصف العام، يصب قذائف مدفعيته وصواريخ طائراته علي مختلف مدن ومخيمات قطاع غزة. قلة بين مئات القتلي والجرحي من الضحايا كانوا من مسلحي تنظيمات المقاومة، بينما كان ثلثهم علي الأقل من الأطفال. هذه، بالطبع، ليست حرباً بالمعني المعروف، ليست الحرب التي تستدعي كل هذا الحشد من الدبابات والعربات المجنزرة وأحدث طائرات سلاح الجو. هذه، وكما أريد لها أن تكون، مجزرة ضد أهالي عزل، وسيلة أخري من وسائل الحرب الحديثة لتحقيق أهداف سياسية محددة عن طريق زرع الرعب والخوف في أوساط المدنيين، ودفعهم إلي التخلي عن قادتهم وسياسات هؤلاء القادة. كل الحروب الحديثة تضمنت هجمات بشعة، محسوبة ومخططة، علي المدنيين، من الحرب العالمية الثانية، الحرب الفيتنامية، الحروب ضد العراق، الحروب المتعددة ضد لبنان، وهذه الحرب الطويلة ضد الفلسطينيين. منطق الحرب الإسرائيلية بسيط وواضح: لإسقاط حماس أو إضعافها، أو إجبارها علي انتهاج سياسة جديدة، لابد من تحريض أهالي القطاع للانقلاب علي حكومة هنية، أو للضغط علي هذه الحكومة وإحراجها. ولدفع أهالي القطاع إلي مثل هذا الطريق، لابد من إيقاع آلام كبري بهم، حصاراً وتجويعاً وإفقاراً وقتلاً، لابد من إقناعهم بأنهم سيدفعون ثمناً باهظاً لوقوفهم مع، أو حتي صمتهم عن، قوي المقاومة. عندما أذيع تصريح الرئيس عباس، الذي أكد فيه علي وجود القاعدة في قطاع غزة، لم يفهم من التصريح سوي محاولة من أعلي المسؤولين الفلسطينيين موقعاً لتسويغ التصعيد الإسرائيلي البشع ضد أهالي القطاع. وهذا ما حدث بالفعل. وعندما بدأ التصعيد، تردد صدي تصريحات الرئيس في تصريحات مشابهة لوزير إعلامه المالكي (أحد أبرز الوطنيين الفلسطينيين المعاصرين!)، الذي قال، ومرة أخري، إن مسؤولية التصعيد تقع علي كاهل المقاومين الفلسطينيين. هذا، بالرغم من أن كل الأطراف المعنية، بما في ذلك حكومة رام الله، التي يتحدث المالكي باسمها، تدرك أن التوصل إلي هدنة هو أمر ممكن، ولا يحتاج سوي أن تقبل الدولة العبرية بإيقاف الاعتداءات علي القطاع والضفة. توقف الاعتداءات الإسرائيلية، كما أكدت التنظيمات الفلسطينية المختلفة، يؤدي تلقائياً إلي توقف الصواريخ. المشكلة، بالطبع، ليست في إدراك عباس والمالكي، أو عدم إدراكهما، للتفاصيل المتعلقة بالاعتداء والهدنة، المشكلة في جوهر التوجه والسياسات الرئيسية. مضت المفاوضات بين قيادة رام الله والقيادة الإسرائيلية في طريقها أو لم تمض، توصلت إلي نتائج أو لم تتوصل، فقد حددت القيادة الفلسطينية خيارها، وهو خيار الشراكة مع الدولة العبرية. ولسبر كنه هذه الشراكة، ينبغي العودة إلي الأساسيات. لم يكن اتفاق أوسلو كما قيل عند توقيعه تسوية تاريخية للصراع علي فلسطين، بل إطاراً مرجعياً للعلاقة بين الدولة العبرية وقطاع من قيادة منظمة التحرير كان سيتحول إلي سلطة الحكم الذاتي وطبقتها الحاكمة. وإن كان معقولاً أن يثور جدل عربي حول أوسلو في سنوات منتصف التسعينات، فإن تطورات التفاوض بين السلطة والإسرائيليين حسمت الجدل. كل خطوة في مسار اوسلو تطلبت مفاوضات شاقة وطويلة؛ وما أن وصل مسار التفاوض إلي مرحلة محددة، بعد واي ريفر، حتي توقفت المفاوضات كلية، ولم يعد للجدول الزمني الذي تضمنه أوسلو من قيمة. أوسلو لم يكن هو التسوية التاريخية، مهما كان معني هذه التسوية، أوسلو كان شيئاً آخر مختلفاً تماماً. أوسلو هو إطار الشراكة بين الذين قدموا ضمانات ملموسة لاستعدادهم للشراكة، من جهة، والدولة العبرية، من جهة أخري: شراكة لضمان أمن الدولة العبرية، وشراكة لتمهيد الطريق أمام سلام عربي وإسلامي إسرائيلي شامل، وشراكة لفتح أبواب المنطقة العربية أمام الانتشار الإسرائيلي الاقتصادي، وحتي السياسي. وجهة النظر الفلسطينية التي قالت (بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والانقسام العربي في أزمة الكويت) أنه قد آن للفلسطينيين أن يتوجهوا نحو المتوسط (أي الغرب) وأن يديروا ظهرهم للصحراء (أي العرب)، وأن شراكة بين النخبة الفلسطينية والقوة والإمكانيات الإسرائيلية ستسيطر علي الشرق الأوسط كله، كانت تدرك مغزي الاتفاق الذي فاوضت عليه (أو هي في الحقيقة قبلته ولم تفاوض عليه) في أوسلو. ولم يكن مدهشاً أن يقول شمعون بيريز، الشريك الهام في حكم الدولة العبرية آنذاك، أنه صادق علي مسار أوسلو التفاوضي عندما قرأ الورقة الفلسطينية للشراكة والتنمية الاقتصادية في المنطقة، وأدرك بالتالي مصداقية المفاوض الفلسطيني! خلال السنوات القليلة التالية لتوقيع أوسلو، سارت الأمور بالفعل ضمن الأفق الذي أسس له الاتفاق. اعتقلت عناصر تنظيمات المقاومة بالعشرات، وعندما استدعي الأمر في مطلع 1996، اعتقلت هذه العناصر بالآلاف. تعرض المئات للتعذيب، ومات كثيرون من كافة الخلفيات في غرف التعذيب. زيفت الانتخابات التشريعية الأولي، واشتريت قيادات وكتل سياسية، من فتح ومن التنظيمات الأخري، بالأموال والمواقع والمناصب. نشرت قيم وسلوكيات جديدة في مجتمعات الضفة والقطاع المحافظة؛ وشجع الفساد علي نطاق واسع، داخل جسم السلطة وخارجها. وفي الوقت نفسه، كانت معاهدات سلام جديدة توقع مع دول عربية، وعندما لم يكن التوصل إلي معاهدة سلام ممكناً، فتحت السفارات أو القنصليات أو الممثليات الإسرائيلية مختلفة الاهتمامات، بمباركة فلسطينية، بل وأصبح فلسطينيون كبار شركاء أعمال واستثمارات عربية وإسرائيلية مشتركة. وعلي خلفية من مناخ السلام والتطبيع العربي الإسرائيلي، اندفعت دول إسلامية رئيسية لتأسيس علاقات دبلوماسية بالدولة العبرية، أو تعزيز علاقات قائمة. بيد أن التصور الذي وضعه أوسلو لمستقبل العلاقة بين سلطة الحكم الذاتي والدولة العبرية تعثر في النهاية، وكان السبب الرئيسي وراء تعثره هو شخص واحد فقط في قيادة سلطة الحكم الذاتي: ياسر عرفات. والحقيقة أن عرفات لم يعمل من أجل نقض كلي أو جذري لأوسلو؛ كل ما أراده عرفات أن يقدم الإسرائيليون للجانب الفلسطيني ما يكفي لتسويغ السلام والشراكة كما تصورهما أوسلو. ولكن الإسرائيليين، وكما هم دائماً، أرادوا استسلاماً فلسطينياً مطلقاً. الأغلبية العظمي من قيادات السلطة الأمنية والسياسية خالفت عرفات نهجه. عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في خريف 2000، وبدا واضحاً أن عرفات قد انحاز إلي معسكر الانتفاضة، لم يجد حوله إلا قلة من الذين منحهم أوسلو مواقع السلطة والحكم والثروة. وبتصاعد وتيرة الانتفاضة، تصاعدت المؤامرات علي عرفات؛ وما أن فرض عليه الحصار العسكري الإسرائيلي في مقره برام الله، حتي أخذ مساعدوه ورفاقه السابقون في العمل علي نزع سلطاته وتحويله إلي مجرد رمز. وعندما توفي عرفات في ظروف غامضة في المشفي الفرنسي، صمت الرفاق صمت المتواطئ. بخروج عرفات من الساحة السياسية، أصبح من الممكن العودة من جديد إلي تصور وعقد ومناخ الشراكة. ولكن بروز حماس والجهاد وكتائب الأقصي خلال سنوات الانتفاضة، والقاعدة الشعبية الواسعة الملتفة حول نهج المقاومة، طرح مشكلة أخري أمام اعادة بناء علاقات الشراكة. والمؤكد أن الرئيس عباس لم يكن يرغب في عقد انتخابات فلسطينية تشريعية قبل سنتين، ولكن الضغوط الأمريكية، التي بنيت علي تقديرات أكاديمية فلسطينية ساذجة، صديقة لإدارة بوش، أجبرت قيادة السلطة علي عقد الانتخابات، التي انتهت كما هو معروف بفوز حماس. وبذلك أصبحت المشكلة أمام معسكر الشراكة أكثر تعقيداً؛ وقد حاول هؤلاء كل الطرق والوسائل خلال العامين الماضيين للتخلص من حماس، إلي أن وصلت الأمور إلي الصدام الكبير في قطاع غزة في الصيف الماضي، ومن ثم الانقسام السياسي والجغرافي للضفة عن القطاع. خيار قيادة الضفة هو خيار تصور وقيم ومفاهيم أوسلو، هو خيار الشراكة الكاملة مع الدولة العبرية، سياسياً واقتصادياً وأمنياً. وهذا هو جوهر السياسات التي تنفذها وزارة فياض في الضفة الغربية، وجوهر موقف قيادة رام الله مما يجري ضد قطاع غزة. ومن العبث البحث عن تفسيرات أو مبررات أخري. والانقسام الفلسطيني الواقع اليوم ليس انقساماً حول هدنة أو تفاوض (كما يظن بعض السذج في حماس من دعاة التفاوض)، ولكنه انقسام حول خيار الشراكة وتبعاته. وهذه الدماء التي تسفك في قطاع غزة بلا حساب، يراد منها إجبار حماس وقوي المقاومة الفلسطينية الأخري علي التسليم بما سلم به معسكر أوسلو. علي المستوي العربي، يأخذ الانقسام السياسي صورة ومصطلحات مختلفة، ولكنه لا يختلف في جوهره عن الانقسام الفلسطيني. عدد من أنظمة الدول العربية الرئيسية لم يعد منذ زمن يعتبر القضية الفلسطينية مسؤولية عربية، بل شأنا فلسطينيا؛ والدولة العبرية، من وجهة نظر هؤلاء، شريك اقتصادي وسياحي، بوابة سياسية إلي دوائر واشنطن النافذة، وربما حتي حليف استراتيجي إن وصل الخلاف مع إيران مستوي الصراع الساخن. والدور العربي هو في أقصي درجاته دور الوسيط بين الفلسطينيين، من جهة، والإسرائيليين والأمريكيين، من جهة أخري. عدد آخر من الأنظمة العربية يقف موقف المتفرج، متذرعاً بتأثيره الهامشي أو بعده الجغرافي عن الساحة المباشرة للمسألة الفلسطينية. وقلة فقط من الأنظمة العربية لا يزال يري الارتباط الوثيق بين الصراع علي فلسطين وأمنه الوطني، والأمن العربي ككل. لا ترغب هذه القلة في الذهاب إلي الحرب، وهي تدرك عواقب الحرب في ظل ميزان قوي دولي مختل، ولكنها تسعي للحفاظ علي الحد الأدني من المصالح الفلسطينية والعربية. ولكن حتي هذا الموقف لا يقبله معسكر فك الارتباط بين الدولة العربية القطرية والمسألة الفلسطينية. الانقسام العربي حول لبنان، لاسيما حول حرب صيف 2006، حول حكومة غزة وحكومة رام الله، حول الحصار المفروض علي قطاع غزة والحدود المصرية الفلسطينية المغلقة أمام أهالي القطاع، حول استمرار الاحتلال الامريكي للعراق، وصمت بعض من العواصم العربية المدوي إزاء الاعتداء الإسرائيلي المتصاعد علي قطاع غزة، كلها انعكاسات لانقسام أعمق حول الموقف من مسألة الصراع الأساسية علي فلسطين. في مطلع القرن الحادي والعشرين، وعديد العرب قد تجاوز المئات الثلاثة من الملايين، ودولهم أكثر من عشرين، يقف فلسطينيو قطاع غزة في مواجهة هجمة إسرائيلية لا رادع لها إلا ثبات هذه الثلة من العرب علي موقفها. ثمة سماء ملبدة في المجال العربي، ثمة موت ونذر حرب وبوادر انفجارات هائلة في الأفق؛ فليتحسس العرب رؤوسهم. .................................. *كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث