يبدو لمراقب الأحداث في مصر أن المظاهرات السلمية لن تأتي بنتيجة.. فالانقلاب وأي نظام للحكم يسقط سلميا بطريقتين.. إما باحتجاجات عارمة واسعة النطاق وإما بالعصيان المدني.. المظاهرات السلمية الحالية تمنع استقرار الانقلاب ولكنها لم تبلغ في الحجم والشدة الدرجة اللازمة لإسقاط الانقلاب. والوسيلة الثانية هي العصيان المدني.. وقد فشلت الدعوة للعصيان المدني.. ونلاحظ أن أمريكا ظلت تمسك العصا من المنتصف حتى فشلت دعوة التحالف للعصيان المدني.. فعندئذ سمعنا أوباما يهاجم مرسي لأنه لم يكن (في زعمه) رئيسا لكل المصريين.. وأعلن أوباما صراحة أنه يدعم الحكومة الحالية في مصر.. ولكن المظاهرات الهادرة التي توجهت للتحرير في 6 أكتوبر جعلت الولاياتالمتحدة تعود لإمساك العصا من المنتصف فتمنع بعض الأسلحة وبعض المساعدات عن الانقلاب.. ولا شك أن إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية سيُخمد جذوة المظاهرات.. فهو سيعطي للناس وسيلة بديلة للتغيير.. حتى لو زورت الانتخابات هذه المرة فسيعولون على عدم تزويرها في المرات القادمة.. وسيقتصر جهادهم على منع تزوير الانتخابات.. لهذا تحرص أمريكا وتُلح على الانقلابيين بسرعة إنهاء المرحلة الانتقالية والتحول إلى حالة ديمقراطية.. ولذلك فإما أن يسقط الانقلاب قبل الانتخابات وإما لن يسقط في المدى المنظور.. من ناحية أخرى فإن نجاح السيسي هذا الانقلاب سيفتح شهية الضباط وستتكرر الانقلابات ليس في مصر وحدها بل في المنطقة بكاملها.. ووارد جدا.. بل يكاد يكون قانونا من قوانين الفيزياء أن يستعين الانقلابيون الجدد بالمستضعفين المظلومين حاليا.. ويجب أن يحذر الإسلاميون أشد الحذر من تلك الانقلابات.. فالجيوش لا تمنح حرية ولا ديمقراطية.. الجيوش هي قمة الدكتاتورية والاستبداد.. وفاقد الشيء لا يعطيه.. سوف يستخدم الانقلابيون الجدد فئة من الناس ويبطشون بالآخرين ثم ينقلبوا على المؤيدين لهم فينكلون بهم.. وإذا لم يتعلم الإسلاميون هذا الدرس من 1954 ، 2011 ، 2013 فلا بارك الله فيهم.. وعليهم من الله ما يستحقون.. مازال الإسلاميون يتمسكون تمسكا شديدا بالخيار السلمي.. ورغم الثمن الفادح الذي يدفعونه في كل مظاهرة حيث يسقط الشهداء والجرحى والمعتقلون. والذين يسيرون في المظاهرات يدركون مدى سخط الشباب على هذه السلمية العقيمة المهزومة دائما.. ورغم ذلك لن تلجأ الكيانات الإسلامية المنظمة أبدا للعنف لأن كل تجاربها السابقة وتجارب دول المنطقة أثبتت لها فشل وشؤم اللجوء للعنف.. ولكن الشباب غير المنظم سواء أكان إسلاميا أو غير إسلامي لن يطيق استمرار القهر والقتل دون أن تبدر منه ردود فعل عنيفة.. والعجيب في الأمر أن الإنقلابيين يسعون سعيا حثيثا لجر المعارضين إلى مربع العنف.. ويحسبون أن هذا يطلق أيديهم في الإبادة.. وهم واثقون (على غير أساس صحيح) في حسم معركة العنف لصالحهم لأنهم الأقوى عسكريا.. فالعسكر لا يفهمون سوى لغة القوة والقتل لذلك هم أفشل خلق الله في السياسة والإدارة.. فهم لا يدركون عواقب ممارستهم للعنف الوحشي.. إنما بمنطقهم العسكري يرون أن عليهم قتل الخصوم وأسرهم فإذا لم يستسلموا فعليهم أن يمعنوا في هزيمة الخصم وقتله حتى يمكنهم إملاء شروط الإستسلام على الخصوم.. هذا ما تعلموه في الأكاديميات العسكرية ولا يعرفون غيره.. والمدرسة العسكرية الأمريكية الصهيونية التي درسوها فيها لها شعار معروف: "إذا فشل العنف فالحل هو مزيد من العنف". ظلت المظاهرات في سوريا تتمسك بسلميتها على مدى عام ونصف رغم القتل المتواصل الذي يتعرضون له.. وكان النظام يفعل المستحيل ليجرهم إلى مربع العنف حتى يستأصلهم تبعا للسيناريو الجزائري الذي صار نموذجا يُحتذى.. وعندما تحولت الثورة إلى العنف وجد النظام نفسه عاجزا عن مواجهة العنف.. وحطمت أعمال العنف المتبادل الجيش والدولة وستقضي حتما على النظام ولكن بثمن فادح للغاية.. وهذا السيناريو السوري يرفضه الإسلاميون في مصر لأنهم يريدون الحفاظ على الجيش والدولة.. ولا يخشى الإنقلابيون هذا السيناريو لأنه يتطلب وجود دولة قوية حاضنة على الحدود (مثل تركيا بالنسبة لسوريا).. كما يتطلب وجود دعم إقليمي وعالمي.. ولن تتوافر هذه الشروط في الحالة المصرية.. بيد أن الشباب لن يظل طويلا تحت القمع الوحشي دون أن تبدر منه ردود فعل عنيفة.. وإذا لم يتوقف الإنقلابيون عن القتل فسيلجأ كثير من الشباب غير المنضم لجماعات أو تنظيمات إلى أعمال عنف خطيرة وسيكون من المستحيل القضاء عليهم لأن الفاعلون أفراد أو مجموعات صغيرة جدا مستقلة عن أي تنظيم.. والقبض على فرد أو مجموعة لن يؤثر في الباقين لأنهم لا يعرفون أحدا سوى أنفسهم.. وقد سمعت كثير من الشباب المقهور في المظاهرات يعلن سخطه وكفره بالسلمية.. ويقولونها صراحة: "نحن نُعامل كإرهابيين فلنتصرف كإرهابيين ولن نخسر شيئا لأننا نُقتل في كل الأحوال". وإذا لم يخفف الإنقلابيون هذا الاحتقان فستكون العواقب وخيمة للغاية.. ولن يتمتعوا بالسيناريو الجزائري بل سيُشوون في نيرانه.. لأنهم سينكلون بالسلميين.. بينما سينكل بهم غير السلميين المجهولين.. وهم من غبائهم ينكلون بالسلميين في كل الحالات.. فلن يخسر أولائك أكثر مما يخسرون حاليا.. بينما سيذوق الانقلابيون لباس الخوف والفزع.. الثوريون غير الإسلاميين لن يحتاجوا لفتاوى تبيح لهم العنف بينما الإسلاميون غير المنظمين سيستخدمون آيات مثل {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وفعل "يُقاتلون"مبني للمجهول أي "الذين يقع عليهم القتال".. وهي أول الآيات التي أشترعت الجهاد في الإسلام.. ومثل قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، وأحاديث مثل {إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما}.. وطبعا لن يجدوا عقلاء يقنعوهم بقواعد الفقه التي تمنع الخروج المسلح على الحكام الظالمين إذا أدى الخروج إلى مفاسد أكبر وإذا كان الخروج المسلح بلا جدوى.. وحتى لو وجدوا من ينصحهم بذلك فلن ينتصحوا.. وهم ليسوا تحت طاعة أحد فيمنعهم من العنف.. رغم أن لجوء البعض للعنف (كرد فعل للعنف الإنقلابي الوحشي) قد يُعجل بسقوط الإنقلاب ولكنه قد يؤدي إلى مخاطر كبيرة وقد يعرقل مسيرة المقاومة السلمية.. مازال إذن الخيار السلمي هو الخيار الصحيح لأنه يمنع استقرار الإنقلاب ولأنه يؤدي إلى الشلل والفشل الإقتصادي.. والاقتصاد هو العامل الحاسم في صراعنا السلمي مع الانقلاب.. ولا يستهين أحد بالاقتصاد فما أسقط النظام الشيوعي العاتي في الاتحاد السوفيتي سوى العامل الاقتصادي.. فما أغنت عنهم جيوشهم الجرارة ولا أسلحتهم الفتاكة ولا شراستهم ولا دمويتهم المشهورة.. ولا حزبهم الشيوعي الضخم..