رأيت قوات الجيش التي أنزلها السادات في أحداث انتفاضة الحرامية كما سماها السادات وقتها.. ورأيت قوات الجيش التي أنزلها مبارك في بداية الثمانينات للسيطرة على تمرد الأمن المركزي.. ورأيت قوات الجيش التي أنزلها مبارك أو طنطاوي في ثورة 2011 بعد انهيار الشرطة.. في كل تلك الحالات كانت القوات قوات مدرعة ثقيلة وبأعداد كبيرة.. من تشكيلات قتالية ميدانية.. ولكن القوات العسكرية التي أنزلها السيسي في الانقلاب الأخير هي مجرد عربات مصفحة وبأعداد قليلة للغاية.. بالكاد تحمي عربة مصفحة أو اثنتين المنشآت الحيوية بالنسبة لهم.. وفي شارع رمسيس خلال مظاهرات 6 أكتوبر الدموي كانت هناك ثلاث عربات مصفحة فقط تابعة للجيش منها عربة تعمل كونش لإزالة العوائق، وكان هناك عربتين مصفحتين تابعتين للشرطة.. ما مغزى هذا الكلام؟ لماذا لم يستخدم السيسي التشكيلات المدرعة الثقيلة؟ ولماذا يكتفي بهذا العدد المحدود للغاية من القوات العسكرية؟ وهي غالبا قوات تابعة للحرس الجمهوري أو المنطقة المركزية.. إن قوات الشرطة والأمن المركزي تغنيه عن تلك القوات العسكرية الرمزية من وجهة نظري.. والإجابة أنه ربما لا يريد الاستعانة بالتشكيلات الميدانية الكبيرة لأنه لا يضمن ولائها ولا يضمن موافقتها على سفك دماء الشعب.. وربما يعول على صراع طويل ممتد لا تصلح معه التشكيلات الثقيلة المقاتلة لأنها ستكون عبئا ماديا كبيرا فلا تستخدم إلا لفترة محدودة لإلقاء الرعب فقط.. أما القوات الخفيفة القليلة الموالية القادرة على القتل فمناسبة تماما لمهمة قذرة طويلة المدى.. القاعدة المجربة أن قوات الشرطة لا تستطيع مواجهة شغب وتمرد واسع النطاق ولابد عندئذ من الاستعانة بالجيش.. والسيسي من وجهة نظري لم يستعن بالجيش بعد.. ولكنه سيضطر لذلك إذا اتسعت المظاهرات وتحولت إلى شغب وتمرد.. وعندئذ سيكون وارد جدا أن ينقلب الجيش على الانقلاب ويطيح بالسيسي ومن معه.. وإذا انقلب الجيش على الانقلاب لأي سبب من الأسباب فلن يكون ذلك في صالح رافضي الانقلاب ولا في صالح المسار الديمقراطي.. حتى لو نظموا انتخابات نزيهة أو سلموا السلطة للرئيس مرسي وعادوا إلى ثكناتهم في وقار واحترام.. لأن هذا سيجعل الجيش هو السلطة الحقيقية من وراء ستار.. وسيجعله صانع الملوك المتربص دائما.. وسيجعله ينقلب كلما حلى في عينه الانقلاب.. فعندما انقلب الجنرال سوار الذهب في السودان ووفى بوعده ونظم انتخابات نزيهة وسلم السلطة للمدنيين المنتخبين لم يؤد ذلك إلى استقرار ولا استمرار الديمقراطية.. فسرعان ما انقلب الجيش مرة أخرى وأطاح بالديمقراطية الوليدة.. وصدق من قال أن الديمقراطية لا يمكن أن تأتي أبدا من الجيوش لأن الجيوش هي قمة الدكتاتورية.. وهي ميزة في الجيوش وليست عيبا.. ويفتخر بذلك العسكريون أنفسهم.. وفاقد الشيء لا يعطيه.. فلا يَطلب الثلج من وهج النيران سوى شخص أحمق.. الديمقراطية لا تمنحها الجيوش وإنما تنتزعها الشعوب الحرة الأبية من بين أنياب العسكر بتضحيات فادحة وأثمان باهظة كما فعلت كل الشعوب التي تتمتع بالديمقراطية.. فالذي يمنح الديمقراطية يستطيع مصادرتها في أي لحظة.. أما عندما يقهر الشعب الطغيان الانقلابي فلن تستطيع قوة عسكرية ولن تفكر أصلا في الانقلاب مرة أخرى.. لهذا فكل من عول من قبل أو يعول حاليا على طوق نجاة من عسكر آخرين هو واهم للغاية.. فلنوطن أنفسنا على قهر الانقلاب بأيدينا.. فإما أفلحنا ووهبنا شعبنا حرية أبدية.. وإما أخفقنا فصرنا مثلا يحتذى ولبنة في صرح تبنيه أجيال من المناضلين.. وفي كل الحالات أجرناعلى الله وقد أعذرنا إليه ببذل كل ما في وسعنا.. ولن يضيع دم ولا جهد مبذول في الدنيا ولا في الآخرة..