كم من حق هُزم.. وكم من مظلوم خُذل.. وكم من نبي قُتل.. كان أصحاب عيسى يُحرقون على أعمدة الشوارع في روما ليضيئوا بهم الطرقات.. الكهنة ورجال الدين الرسميين كانوا دائما في خدمة الملوك والطغاة.. وكان الأنبياء دائما من خارج طبقة رجال الدين الرسميين.. وكان هؤلاء الكهنة يفتون الطغاة دائما بضرورة قتل أي نبي لخروجه على الدين القويم!! وكانوا يهيجون العوام على الأنبياء.. لا جديد إذن تحت الشمس.. كل الطوائف تسلك نفس السلوك عبر آلاف السنين إذا وضعت في مواقف متشابهه.. فالعسكر يطغى ويقتل ويفسد في الأرض.. والكهنة يحقدون على من يهدد احتكارهم للدين.. ويقبضون فيفتون بقتل المصلحين.. والعوام يُهَيَّجون فيهيجون ويقتلون ويذبحون ويهتفون ويصفقون لكل سفاح أثيم.. الغريب أن كل قصص القرآن وكل أحاديث النبي التي تحكي اضطهاد النبيين والمؤمنين والمصلحين لم تذكر لوما ولا تقريعا لهؤلاء المضطهدين لفشلهم مرة بعد مرة في إقامة الدين وقمع الظالمين.. رغم أنهم كبشر يخطئون لا محالة.. ولو دققت في أسباب تعرضهم للاضطهاد والمذابح لوجدت حتما أخطاءً بشرية من كل لون وتقصيرا في بعض الأسباب وغفلة عن بعض المخاطر.. ورغم ذلك لا تجد لوما لهم ولا تقريع.. بل تجد أشد السخط والوعيد والويل والثبور على الظالمين والقاتلين والراضين والساكتين.. فلا مجال مطلقا لمقارنة أخطاء الإدارة أو السياسة بفظاعة القتل والتعذيب والتشريد.. ومن يبرر هذا بذاك إنما يعاني من تشوه وشذوذ نفسي وعوار أخلاقي وحقد وإجرام لا حدود لهما.. لذلك استحق من الله كل هذا التنديد والوعيد بالخلود في أعماق الجحيم.. ليس صحيحا أن الاضطهاد يقوي الدعوات دائما.. ففي بعض الأحيان.. بل في كثير من الأحيان قضى الاضطهاد والقتل والتعذيب على عقائد الناس قضاءا تاما واستبدلها بعقائد أخرى صاروا متعصبين لها غافلين عن أنها فرضت على أجدادهم بالقتل والتعذيب الوحشي.. الأندلس والفلبين هما أوضح مثال على ذلك.. ولكن كلاهما كانت له ظروف جغرافية ساعدت على ذلك.. فالأولى شبه جزيرة منفصلة عن العالم الإسلامي ومتصلة بالعالم المسيحي.. والثانية جزيرة معزولة في أقصى الشرق وخضعت لاستعمار وحشي طويل الأمد.. ولكن لأسباب موضوعية بحتة لا مجال فيها لأي عاطفة أقرر أن اضطهاد الحركات الإسلامية الحديثة مصيره الفشل التام.. لأن هذه الدعوات والحركات الإسلامية منتشرة على امتداد العالم الإسلامي وغير الإسلامي.. ولأنها متغلغلة في المجتمعات الإسلامية ولها قواعد عريضة وجماهير واسعة.. ولأنهم يمتلكون رصيدا تاريخيا كبيرا من المحن والابتلاء والصبر والثبات والبطولة والفداء.. ولأن ما يدعون إليه من العودة للهوية الإسلامية والأخلاق الإسلامية والشرائع الإسلامية والوحدة الإسلامية هي أمور مستقرة في نفوس كل المسلمين ولا تتصادم أبدا مع ضمائرهم وعواطفهم.. بعكس كل مَنْ يدعو لأيدلوجية مستوردة سواء شيوعية أو اشتراكية أو قومية أو ليبرالية.. ولا ننسى أن لدى هذه الحركات الإسلامية علماء وفقهاء أفذاذ ولديهم منهج وسطي حكيم وتأصيل قوي ورصين ومراجع وكتب لا حصر لها.. ولديهم تاريخ وحضارة إسلامية يباهون بها العالم.. كل تلك الأسباب تجعل استئصال الظاهرة الإسلامية ضرب من الخيال.. وأبسط دليل على ذلك هو أن الاضطهاد الشديد والتشويه الإعلامي الهائل الذي تعرض له الإخوان في عصر فاروق وعبد الناصر وما بعدهما ما زادهم إلا قوة وجعلهم ينتشرون في أقطار الأرض.. وخلال إختفاء الاخوان في السجون أخرجت التربة الإسلامية نماذج إسلامية حركية أكثر عنفا وتشددا من الإخوان.. ثم بعد خروج الإخوان من السجون ازدهروا ازدهارا كبيرا وسريعا.. فكانت المحنة منحة.. كانت المحنة تطهيرا للصف وإخلاصا للنية واستخلاصا للدروس وتاريخا من البطولة والصمود.. وإذا كان الإخوان قد استفاقوا من الاضطهاد السابق بعد ثلاثين سنة فإني أتوقع ألا تستغرق الاستفاقة الثانية أكثر من خمس سنوات.. وذلك بسبب اتساع قواعد المؤيدين لهم وبسبب السماوات المفتوحة والفضائيات المناصرة لهم.. وبسبب وسائل الاتصال الحديثة مثل الانترنت.. وبسبب زيادة وعي الشعب بحقوقه.. وبسبب الكراهية التلقائية للاستبداد العسكري والقمع الوحشي.. بل لا أستبعد أن يسقط الانقلاب خلال الأسابيع القادمة.. ولكن إذا طال أمده فلن يزيد عن خمس سنوات بإذن الله تعالى.. وساعتها لن يستطيع أحد إحصاء فوائد تلك المحنة القاسية.. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.. صدق الله العظيم