هل انتهت أزمة المواجهة بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسة القضاء عند هذا الحد، ببقاء المستشار عبدالمجيد محمود، في منصبه نائبا عاما، منتصرا في معركة دبرت بليل لإزاحته من منصبه، وهل كان هناك مخطط مسبق لعزل النائب العام من منصبه وينتظر فقط ساعة الصفر لبدء تنفيذ المخطط؟ومن الذي أشار ومن الذي خطط ومن الذي نفذ.. كلها أسئلة تحتاج إما إلي أجوبة أو استنتاجات ولأننا في مصر قبل الثورة وحتي بعد الثورة، تعودنا علي عدم الصراحة وعدم الشفافية، فليس أمامنا إلا أن نضع أمامنا ما تسفر عنه تخيلاتنا واستنتاجاتنا، لأن الأزمة الأخيرة بين رئيس الجمهورية والنائب العام، كان أكثر ما فيها هي حرب التصريحات ومن الجميع ومن كل من هب ودب، ولم تخرج علينا الرئاسة ببيان واف وشاف يشرح جميع الملابسات للأزمة التي لم تتجاوز 48 ساعة.في أقل من 4 أشهر تتجدد الأزمة للمرة الثانية بين الرئيس والقضاة، فكانت الأولي حين أصدر الرئيس قرارا جمهوريا بعودة مجلس الشعب مخالفا حكم المحكمة الدستورية العليا التي حكمت ببطلانه وكأنه والعدم سواء علي خلفية بطلان عدد من بنود قانون انتخابات مجلس الشعب وبالتالي يعد المجلس باطلا.وبعد الاصطدام وهبة أعضاء المحكمة الدستورية ورجال القضاء ووقوف نادي القضاء وقفة شرسة ضد القرار الجمهورية مما اضطر رئيس الجمهورية أن يتراجع عن قراره معربا عن احترامه للقانون والقضاء، ولاشك أن هناك من أشار علي الرئيس بخطأ قراره الذي جاء وقتها في أعقاب اجتماع لمجلس شوري جماعة الإخوان المسلمون، الأمر الذي تم تفسيره أنه قرار الجماعة وليس قرار الرئيس، وقد انتهت الأزمة بعدول الرئيس عن قراره، لكن لماذا حدثت الأزمة في هذا التوقيت تحديدا؟جاءت الأزمة، ومفترض أننا في دولة مؤسسات، وقد استقر الحال وفي القصر الجمهوري فريق كبير من المستشارين في كل المجالات، حتي أن نائب الرئيس المستشار محمود مكي، قيمة قانونية ورجل قضاء جليل، من المفترض أن يكون قد قدم النصيحة للرئيس والمشورة في موضعها الصحي ح، إلا أنه كان أحد أطراف الأزمة إن لم يكن ركنا أصيلا فيها، وهذا طبقا لما كشفه النائب العام نفسه في تصريحاته وبيانه الذي أصدره عقب إندلاع الأزمة مباشرة.ومن المعلوم قانونا أن منصب النائب العام محصن طبقا لقانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972، فالمادة 119 منه تقضي بأن منصب النائب العام محصن وغير قابل للعزل، وهذه الحصانة ليست للنزاهة ولا للتشريف وإنما هي احتراما لجلال المنصب واحتراما لسيادة الشعب الذي يمثله النائب العام وحتي يستطيع أداء عمله دون قلق أو تهديد في هذا المنصب الرفيع.ولما كان الأمر كذلك، فماذا حدث، هل تأتي الأمور مصادفة؟ في الأمور الحياتية الشخصية ممكن، ولكن في الحياة السياسية فلا تأتي الأمور مصادفة، فبعد الحكم الصادم المفاجئ في قضية موقعة الجمل، اضطر القاضي أن يحكم بالبراءة بناء علي الأدلة والمستندات المهلهلة أمامه في القضية، شهود تبين من صحيفة سوابقهم أنهم مسجلون خطر، وآخرين شهود زور لاتقبل شهادتهم، علي أي حال قضي القاضي بالبراءة.هنا ثار أهالي الضحايا ومن حقهم طبعا وهاج الثوار معهم جماعة الإخوان المسلمون ولم يجدوا كبشا للفداء سوي النائب العام ليقدموا عزله هدية للرأي العام الذي ادعي الإخوان أنه غاضب بشدة وأن الجماهير ستنزل إلي الشوارع لتعزل النائب العام بنفسها وهو ما لم يحدث.ولكن كان اجتماع الرئيس بمستشاريه للوقوف علي حكم البراءة في موقعة الجمل، حيث يري البعض أن القصور في تقديم الأدلة والتحريات كان من النيابة العامة، رغم أن من حقق في القضية هم قضاة التحقيق المنتدبون من وزارة العدل وليس أعضاء النيابة العامة.وبعد المشاورات قرر الرئيس عزل النائب في صورة أنيقة مغلفة بغلاف التكريم حين قرر تعيينه سفيرا لمصر لدي دولة الفاتيكان أصغر دولة في العالم معتبرا أن هذا تكريما للنائب العام.وبعد أن تناقلت الخبر وسائل الإعلام وجميع وكالات الأنباء، تردد أن النائب العام قبل المنصب شفاهة ولكن يخرج بعدها بقليل ليصدر بيانا في اليوم الثاني للقرار شارحا تفاصيل المخطط الذي أجري للعزل من منصبه كاشفا عن عدد من المحطات المشبوهة في هذا المخطط ما أصابنا جميعا بالدهشة والاستنكار لمحطات هذا المخطط.إذ كشف النائب العام النقاب عن تلقيه اتصالين هاتفيين حملا ما وصفه بأنه تهديدات بصورة مباشرة وغير مباشرة والاتصالين كانا من المستشار أحمد مكي وزير العدل والمستشار حسام الغرياني رئيس محكمة النقض السابق ورئيس الجمعية التأسيسية للدستور.وحين اتصلا به أبلغاه بأنهما يحدث انه من رئاسة الجمهورية وهي نبرة فيها نوع من التخويف أو أهمية الأمر، وأنهما في مهمة خطيرة بناء عليها حضرا إلي رئاسة الجمهورية لبحثها مع الرئيس نفسه أو كبار مستشاريه فهذا هو التصور العقلي للأمر، وعلي إثر هذا أبلغه وزير العدل ضرورة بل وجوب ترك منصبه تحسبا من المظاهرات التي ستخرج في جميع محافظات مصر يوم الجمعة ثاني أيام القرار لتطالب بإقالة النائب العام ولهذا فيجب ترك المنصب علي الفور، وكشف النائب العام في بيانه أن المستشار أحمد مكي طلب منه أن يعود للعمل في المحاكم لحين تدبير منصب كريم له.أما الاتصال الثاني فكان من المستشار حسام الغرياني وكان أيضا من داخل مقر رئاسة الجمهورية ولكنه كان الاتصال الأعجب والأغرب والذي يحتاج لكثير من التوضيح والتفسير لأسباب عديدة.أولها أن المستشار الغرياني حدث النائب العام بأسلوب وطريقة لا تأتي من مستشار جليل فقد أبلغه بضرورة الرحيل بحجة خطورة الموقف، وحين طالبه النائب العام بإيضاح أسباب هذه الخطورة أجابه الغرياني نصا أنا في حل من إبلاغك بالأسباب واقترح عليك أن تنتقل للعمل سفيرا لمصر في دولة الفاتيكان.وأضاف الغرياني في اتصاله المتظاهرون من الممكن أن يتوافدوا علي مكتبك وأن يقوموا بالاعتداء عليك علي نحو ما جري مع المرحوم المستشار عبدالرازق السنهوري رئيس مجلس الدولة الأسبق وأوضح النائب العام في رده علي الغرياني أن في ذلك الحديث تهديدا مباشرا له لا يقبله علي وجه الإطلاق وقال النائب العام للغرياني ليكن ما يكون.بعد الكشف عن هذه الاتصالات وما حملته من إشارات وتلميحات تحمل التهديد تارة والوعيد تارة أخري، استشاط غضب القضاة وعقدوا اجتماعا عاجلا برئاسة المستشار أحمد الزند رئيس نادي قضاة مصر في النادي النهري للقضاة في العجوزة ليقرروا وقفوهم بجوار النائب العام وأن محاولات عزله بالالتفاف وتقنيع القانون تدخل سافر من السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية، وحول النائب العام التف أيضا المحامون ونقيبهم سامح عاشور والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ليقرروا جميعا الصمود في وجه هذه المذبحة الجديدة لقضاة مصر، وليؤكد النائب العام بقاءه في منصبه وأنه سيتوجه إلي مكتبه لممارسة عمله وأنه لن يغادر منصبه المحصن إلا ميتا، وبالفعل ذهب النائب العام في اليوم الثاني لمكتبه في تحد قوي ولم يعبأ بالتهديدات التي أطلقتها قيادات جماعة الإخوان المسلمون وأبرزهم د.عصام العريان الذي خاطب النائب العام في تبجح صارخ علي حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي تويتر طالبا منه أن يرحل بكرامة.. وهو خطاب يحمل خيارات لا نفهم إذا لم يرحل النائب العام محافظا علي كرامته فما الذي سيعقب ذلك يا د.عصام؟علي أي حال في هذا اليوم لم يرحل النائب العام بكرامة بل بقي محافظا علي كرامته وعلي كرامة القضاء والقضاة وسقط قرار رئيس الجمهورية للمرة الثانية مع القضاة وتم تفسير الأمر علي أنه سوء فهم وعاد النائب العام إلي مكتبه في دار القضاء العالي ممتطيا جواد النصر، بعد أن كتبت صحيفة الحرية والعدالة التابعة لحزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين في صدر صفحتها الأولي بعدد الخميس الماضي خيبة أمل راكبة جمل.أما المستشار حسام الغرياني فكان بطلا حقيقيا في هذه الأزمة، ودوره يطرح الكثير من التساؤلات، فكيف لرجل في قامته يقبل أن يقوم بمهمة من مثل هذا النوع بأن يقوم بدور المهدد للنائب العام في اتصال تليفوني من داخل مقر رئاسة الجمهورية؟وكيف وهو رجل قضاء سابق وشامخ تقلد أعلي وارفع منصب قضائي رئيس محكمة النقض ألا ينتفض لتدخل السلطة التنفيذية في أعمال القضاء ومحاولة الالتفاف علي عزل النائب العام وتعيينه سفيرا في دولة الفاتيكان دون موافقته المسبقة وبشكل رسمي.ثم الأمر الأهم والأخطر في هذه الأزمة وهو ما لم ينتبه إليه الآخرون كيف للمستشار حسام الغرياني وهو يتبوأ منصب رئيس اللجنة التأسيسية للدستور أن يذهب لأي مؤسسة سيادية أو تنفيذية في الدولة قبل الانتهاء من كتابة وإقرار الدستور.إن ذهاب الغرياني لمؤسسة الرئاسة يمثل حرجا كبيرا لرجل في مكانته يفترض تجرده وألا يقترب من رئيس جمهورية ولا رئيس وزراء ولا وزير ولا محافظ ولا أي مسئول تنفيذي في الدولة كبر أو صغر شأنه، فوجوده في مؤسسة الرئاسة من الممكن أن يتم تفسيره أن رئيس الجمعية التي تكتب دستورا علي علاقة وطيدة بالرئيس وبالتالي فلا مانع من وضع مواد في الدستور الجديد تصب في صالح الرئيس الحالي.أيضا قيامه بالاتصال بالنائب العام بالاشتراك مع وزير العدل لايمثل الحياد التام لأن وزير العدل أحد أعضاء السلطة التنفيذية بحكم منصبه.كان من الأدعي أن يبقي الغرياني بعيدا عن الدخول في أي أزمة ويظهر بجانب طرف علي حساب طرف آخر، وحتي دور الوسيط في هذا التوقيت تحديدا وهو رئيس الجمعية التي تكتب دستور مصر فيه علامات استفهام ويضعه في دائرة الشبهات.