لا أعرف مدينة فى هذا الشرق الأوسط حظيت بطوفان من المشاعر المتناقضة مثل مدينة شرم الشيخ.. فهى فى وجدان الغالبية العظمى من المصريين تلك الجنة الطبيعية الخلابة التى اختطفتها الرأسمالية المتوحشة فى النصف الثانى من فترة حكم الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وهى أيضاً المنتجع الاختيارى وقصره الرئاسى الذى اعتاد أن يطل من عليائه على رعاياه الغارقين فى أوحال الفقر والبطالة والجريمة والتناسل العشوائى والبيوت الضيقة المحرومة حتى من الهواء والشمس.. وهى كذلك البقعة التى شاءت لها أوكار الإجرام السياسى الدولى أن تكون منصة إقليمية لتجديد السيطرة على المنطقة فى مؤتمرات قمم، كان كل منها يبدأ بأكاذيب وينتهى بكوارث جديدة أدت فى نهاية المطاف إلى ما وصلت إليه المنطقة الآن من خراب وتفكك وإرهاب وفوضى عارمة. ولكن شرم الشيخ، قبل هذا وبعده، هى قطعة غالية من خريطة مصر ومن جغرافيا الجمال الطبيعى الفاتن.. تقع على مساحة 480 كيلومتراً مربعاً عند ملتقى قارتَى آسيا وأفريقيا فى أقصى الجنوب الشرقى لشبه جزيرة سيناء، ولا يملك كل مَن يطالعها من الجو أو يقطع طرقاتها البرية إلا أن تسكنه هذه المدينة طيلة حياته، وأن يظل سحرها ومهابة جبالها بألوانها المدهشة ومبانيها البيضاء المنثورة فى تخطيط هندسى خلاب وبحرها الغنى بأندر ثروات بحار العالم كله، وهوائها شديد النقاء، وسمائها البكر، كل هذا يظل فى وجدان مَن يزورها لأول مرة، وكأنه ندَّاهة مسيطرة لن تترك الزائر فى حاله أبداً، حتى يعود إليها وكأنها البلسم الشافى من قبح وبشاعة الحياة. ولهذا كله أصبحت شرم الشيخ خلال أكثر من عشرين عاماً المقصد الأهم للشرائح العليا من الطبقة المتوسطة فى العديد من دول العالم، وخلال شهور الشتاء الأوروبى القارس تحولت «شرم» -ومعها الأقصر وأسوان- إلى واحة دافئة لأشعة الشمس التى لا تغيب عنها لأكثر من عشر ساعات فى اليوم، وخلال سنوات الاستقرار والرواج السياحى قبل ثورة «25 يناير»، كانت شرم الشيخ من أهم روافد توليد فرص العمل والدخل لآلاف المصريين، وأهم مصادر ضخ العملات الأجنبية فى عصب الاقتصاد المصرى. ولعل هذا الدور تحديداً هو الذى وضعها على قمة أجندة الإرهاب، فكلما شارف الاقتصاد المصرى على التعافى من آثار الركود، وكلما انتعشت محفظة الاحتياطى الأجنبى المصرى واقتربت من الوصول إلى حد الأمان، اختار الإرهاب الموجَّه من إسرائيل وأمريكا، شرم الشيخ أو طابا، لتكون أى منهما مسرحاً لحادث إرهابى غادر، أو لسقوط غامض لطائرة ركاب ومقتل كل مَن على متنها.. ولعل شرم الشيخ أيضاً هى من المدن الفريدة فى العالم التى أقيمت على أرضها نصب تذكارية لضحايا طائرات الركاب، مثلما حدث مع النصب التذكارى لضحايا طائرة شركة «فلاش» المصرية التى سقطت فى يناير 2004 ومات فيها 148 سائحاً، بينهم 133 فرنسياً!. الضربة الغادرة اختارت هذه المرة طائرة ركاب روسية، فى وقت تحولت فيه روسيا إلى لاعب رئيسى فى منطقة الشرق الأوسط يزاحم الولاياتالمتحدةالأمريكية التى انفردت بالتلاعب بالمنطقة خلال الأربعين عاماً الأخيرة، وتمكنت من تخريبها ونهب ثرواتها وإضعاف دولها، وباعت للكثير من دولها أسلحة لم تكن بحاجة إليها على الإطلاق، ثم أرغمت هذه الدول على تمويل جيوش الإرهاب الجوالة لإسقاط أنظمة حكم عربية وتخريب دول أخرى، وجاءت الضربة هذه المرة مزدوجة لتطال التقارب المصرى - الروسى، والسياحة الروسية إلى مصر، فى توقيت كنا فيه أحوج ما نكون إلى هذه المساندة. والزائر لشرم الشيخ هذه الأيام -وخصوصاً بعد مغادرة الآلاف من السائحين الأجانب- لا يملك إلا أن يشعر بالفجيعة وهو يرى حركة الإخلاء تتم بسرعة شديدة، ويشاهد المنشآت السياحية الشاسعة وهى تكاد تخلو تماماً من السائحين الأجانب، ومشاعر الفجيعة يتعلق معظمها بآلاف الموظفين والعمال المصريين الذين فقدوا وظائفهم، وآلاف غيرهم فقدوا نصف أجورهم، ثم هناك آلاف آخرون من مستأجرى البازارات والمحلات فى «السوق القديم وخليج نعمة»، وأصحاب المحلات والصيدليات فى البلد كله، وهم يقضون أياماً عديدة دون بيع أو شراء. لقد نزل الحادث الأخير على رؤوس هؤلاء تحديداً كصاعقة غادرة، لأنهم فى النهاية لا يملكون مدخرات تحميهم أثناء شهور البطالة التى لا يعرف أحد متى ستنتهى، ولأنهم لم يجدوا أحداً يقف إلى جوارهم، فكل المساندة -كما يرون- ستذهب إلى كبار المستثمرين فى شرم الشيخ، الذين أخذوا الأراضى بتراب الفلوس، وحصلوا على قروض ضخمة من البنوك لبناء الفنادق والمنشآت السياحية العملاقة، وتفننوا طيلة ربع قرن فى التهرب من الضرائب وإعادة جدولة فوائد القروض وإسقاطها مرات عديدة، بينما تحولوا الآن فى ظل هذه الأزمة إلى «كرابيج» تجلد ظهور المستأجرين للمحلات والبازارات والشقق السكنية المملوكة لهم، إنهم -كما قال لى كثيرون هناك- يطلبون الرحمة والمساندة والدعم من الدولة، وسوف تمنحهم الدولة كل ما يطلبون وأكثر.. ولكنهم يرفضون وصول هذه الرحمة أو المساندة إلى الشريحة التى يركبون فوق ظهورها. هل من سبيل للخروج من هذه الأزمة؟ السبيل الوحيد من وجهة نظر كبار المستثمرين فى شرم الشيخ هو عودة السائحين الأجانب وتخصيص مليارات جديدة من ميزانية الدولة للترويج السياحى فى الخارج.. وذلك أمر مستحيل فى ظل الظروف العالمية الراهنة، والسبيل الآخر كما يراه الضحايا الحقيقيون للأزمة هو أن تتاح شرم الشيخ للمصريين مثلما أُتيحت للأجانب، وأن يحصل السائح المصرى على الأسعار ذاتها والخدمات ذاتها المتاحة دائماً للأجانب.. فهناك حوالى 2 مليار دولار ينفقها السائحون المصريون فى تركيا وإيطاليا وإسبانيا وتونس والمغرب، وكلها للأسف أرخص من ذهاب المصرى بأسرته إلى شرم الشيخ.. وإذا نجحنا فى إرغام المستثمرين على قبول هذا الحل الثانى سنحافظ فى خطوة واحدة على آلاف فرص العمل هناك، وسنخفف الضغط على العملات الصعبة، ونوفرها لما هو أجدى وأنفع من الإنفاق الترفى على السياحة الخارجية. نقلا عن الزميلة الوطن