لن تنسى مدينة «الشيخ زويد» فى شمال سيناء قصة ولادة الطفل «محمد»، بعد أن شارك نشطاء وأهالى المدينة كلها فى ولادته المتعثرة، التى تصادف أن جاءت لسوء حظه فى ساعات الحظر، لتلقى على كاهلهم مهمة البحث عن طبيب تخدير، وتدبير طريقة للوصول إلى عيادة الدكتور «سليمان»، طبيب التوليد الوحيد الموجود فى المدينة. 6 ساعات من الألم والمعاناة قضتها السيدة أم «محمد» وهى الغريبة عن «الشيخ زويد»، عايش الأهالى تفاصيلها كاملة عبر «فيس بوك»، بعد أن لجأ نجل الطبيب إلى موقع التواصل للاستغاثة بالأهالى من أجل الوصول إلى طبيب التخدير.
وبعد أن نجحت المحاولة أصيب الأهالى والمتابعون بخيبة أمل جديدة بعد فشله فى الوصول لعيادة الدكتور سليمان بسبب استنفار الأكمنة الأمنية خلال فترة الحظر، حتى جاء الفرج بمكالمة مع ضابط فى معسكر الأمن بحى الزهور، بادر بعدها بالاتصال بنجل الطبيب الشهم، وطالبه بنقل المريضة بسيارته إلى العريش وأبلغ الأكمنة لتفتح الطريق أمام الأم، ويرى «محمد» أخيراً النور فى مستشفى العريش العام.
بدأت قصة ولادة «محمد» التى تابعت «الوطن» تفاصيلها وتحدثت إلى أبطالها، مع دقات الساعة الثامنة مساء، وبعد ساعة كاملة من بدء تطبيق حظر التجوال اليومى، عندما سمع ابن الطبيب الذى نزل مصادفة إلى الدور الأول، حيث توجد العيادة، صوتاً خافتاً لقرع الباب، وما إن فتح حتى وجد امرأة منتقبة فى حالة وضع مفترشة الأرض، وهى تئن من الألم، فسارع بالمناداة على والده قائلاً «إلحقنى بسرعة»، ليهرع إليه الأب وهو طبيب التوليد الوحيد المقيم فى الشيخ زويد مع ابنته الكبرى التى حصلت على دورات طبية لتوليد النساء، لأن أغلب رجال البدو يرفضون السماح لرجل بالكشف على نسائهم.
حمل الطبيب وابنته وابنه السيدة إلى سرير الكشف، واستعد ابناه لتوليدها، إلا أن الدكتور «سليمان» طلب منهما أولاً وضعها قرب جهاز ال«سونار»، للتعرف على وضع الجنين، وما إن بدأت صورته فى الظهور على شاشة الجهاز، حتى تغير وجه الأب، الذى قال بخيبة أمل: «الولد مقلوب، الرأس ليس فى الأسفل، ولا بد من إجراء جراحة قيصرية فى أسرع وقت».
كلمات الأب أصابت ابنيه بالصدمة قبل أن يبادر الابن بالسؤال: «كيف يا أبى، ولا يوجد طبيب تخدير؟» ليرد الرجل: «يجب أن نستدعيه من حى الكوثر فوراً».
قالها الرجل وهو يدرك تماماً صعوبة هذه المهمة، فعلى الرغم من أن «الكوثر» لا يبعد عنهم سوى 2 كيلومتر فقط، فإن الطبيب لن يستطيع الحضور بسبب الحظر واستنفار الأكمنة، إضافة إلى عدم وجود وسيلة للاتصال به بسبب انقطاع شبكات المحمول الثلاث عن المدينة وعدم معرفتهم برقم طبيب التخدير الأرضى.
فكر الابن فى حل آخر، وسارع بالاتصال عبر التليفون الأرضى بأحد المسعفين من معارفه لكن المسعف رفض القدوم لهم، قائلاً: «الساعة الآن تجاوزت الثامنة، وهناك تنبيهات أمنية بعدم الخروج ليلاً، اتصلوا بالجيش ولو أصدروا لى إشارة بالخروج سآتى على الفور، أما غير ذلك فلن آتى».
وما إن أغلق المسعف الهاتف حتى توجه الابن ليفتح «فيس بوك» من خلال جهاز الحاسوب المتصل بالإنترنت عبر الخط الأرضى، وكتب رسالة استغاثة لأهالى المدينة قائلاً: «يا أهل الخير، حد بسرعة يروح لحى الكوثر لشقة دكتور التخدير، ويبلغه إن فيه عندنا حالة محتاجة عملية قيصرية فوراً».
ولم تمر دقائق حتى رد عليه أحد الأشخاص، قائلاً: «صعب أن يأتى دكتور التخدير من الكوثر لعيادة والدك لأنها تطل على قسم الشيخ زويد الذى يعتليه القناصة المستنفرون ليلاً ونهاراً، ويطلقون الرصاص على أى دبة نملة بعد حوادث الاعتداء على الأقسام والمديريات والكتيبة بالسيارات المفخخة».
وتطوع آخر قائلاً: أنا أسكن خارج الشيخ زويد وسأتصل بأحد الضباط فى ارتكاز أمنى لأخبره بالموضوع، وعاد بعدها ليقول: «اتصلت بالضابط لكنه قال لى إنه خارج سيناء، ونصحنى بمحاولة الاتصال بقسم الشيخ زويد أو معسكر الأمن»، وبالفعل حاول الشاب وغيره من الأهالى الاتصال بمعسكر الأمن فى حى الزهور، دون جدوى.
وهنا، بدأ البعض فى وضع اقتراحات لحل الأزمة، وكتب ناشط قائلاً: «يا أهالى الشيخ زويد، حد يخرج يصرخ لقناصة القسم أو أحد الكمائن»، فرد آخر: «لا أحد يخرج بدل المصيبة هتصبح مصيبتين، لن يسمعك القناص، وسيطلق الرصاص على أى قادم».
ومع بدء جولة المرور اليومية المعتادة لسيارات الشرطة من شارع الشيخ زويد العام، لتفتيش الطريق الدولى حتى حى الكوثر، مروراً بالمستشفى والقرى المجاورة، قال أحد النشطاء: «سأقف فى وسط الطريق، وإن أطلقوا الرصاص علىَّ سأموت شهيداً، وسأجعل صديقاً آخر يقف بعيداً، حتى يخبرهم إن أصابونى أننى لست مفخخاً، ولكنى كنت أود إيقافهم لمساعدة المسكينة فى عيادة الدكتور سليمان».
رفض الباقون الفكرة، ونجحوا فى إثنائه عنها، مع وصول التعليقات إلى أكثر من 300 تعليق، دون أى تقدم، حتى دخل شخص جديد على التدوينة، وكتب قائلاً: «أنا عمر جار دكتور التخدير وقد كلمته، وهو قال إنه حالاً سيتصل بالدكتور سليمان على التليفون الأرضى».
وتوقفت التعليقات لفترة، حتى كتب ابن الطبيب سليمان: «أشكركم يا جماعة، دكتور التخدير اتصل على التليفون الأرضى، وعرف الحالة وقال إنه فى الطريق إلينا».
كلمات نجل الطبيب لم تطمئن أحداً، وبات شغل الأهالى الشاغل هو كيف سيصل طبيب التخدير؟ أحدهم قال: «ممكن يروح من طريق الحمايدة»، فرد آخر: «طريق الحمايدة مكشوف لكمين الضرائب، ممكن يطلقوا عليه الرصاص»، وقال آخر: ربما يذهب من ناحية النصايرة، ليرد رابع: «النصايرة مكشوفة تماماً إلى معسكر الزهور، وقناصة الزهور متأهبون دائماً».
رحلة بحث مضنية عن «طبيب التخدير»..والضابط وجنوده يسارعون برفع الحواجز لمرور السيدة الحامل الساعة اقتربت من الحادية عشرة ليلاً، والسيدة لا تزال تئن، وهنا تدخل أحد أهالى منطقة الحمايدة يدعى «عمر» قائلاً: «ممكن ننتظر الطبيب عند سوبر ماركت حمدان من الخلف، ونأخذ 500 متر زحفاً، ولن يرانا كمين الضرائب».
وسأل نشطاء «عمر» جار الطبيب عما إذا كان الأخير قد يوافق على هذا المقترح، وبالفعل وافق الطبيب، وطلب أن يكون معه شخص واحد فقط، حتى لا ينكشف أمرهم.
وسرعان ما كتب أحد الشباب على «الفيس»: سأكون بعد أقل من 7 دقائق خلف سوبر ماركت حمدان القريب من حى الكوثر، فى انتظار الطبيب. وبعدها بدقائق انقطعت الكهرباء بعد هطول أمطار خفيفة، وعادت بعد أقل من ربع ساعة.
فى هذه الأثناء، كان الدكتور «سليمان» يعمل على إسعاف الأم، فيما تقف ابنته عند رأس السيدة الحامل تضع الكمادات، وتواسيها بكلمات صغيرة «اصبرى»، ولكن فى النهاية انهارت ابنة الدكتور سليمان وخرجت من الغرفة بعد شعورها بأن السيدة تحتضر.
الدكتور «سليمان»، رجل المهام الصعبة، كما يسميه أهالى الشيخ زويد، الذى ينتمى إلى بدو بئر العبد «بياضى»، تمالك نفسه وخرج وشد على يد ابنته لتقف بجوار المريضة وصعد إلى الدور الثانى ليرى ماذا فعل ابنه؟ لكن الأخير بادره بالسؤال: أبى كيف المريضة؟
رد الأب، الذى علم وقتها أنه ليس هناك جديد لدى ابنه: «ما علينا عملناه، والباقى شغل الله».
نزل الطبيب ليقيس ضغط المريضة، جز على أسنانه قائلاً: «الضغط مرتفع، رغم الإبر وكيس المحلول الذى أخذته»، فقالت الابنة: «يبدو أنها تحتاج إلى نقل دم»، ليغمض الدكتور سليمان عينيه، فتنزل منها دمعتان خلسة، اختصرت معانى الليلة كلها، كما قالت ابنته.
فى هذه الأثناء، سمعت أسرة الطبيب صوت طلقات نارية، فنزل الابن مسرعاً، وقال لوالده: «ضرب نار فى الكوثر، أكيد الدكتور واللى معاه اتصابوا، ربنا يستر، ضرب النار زاد».
وعاد ليتابع الموقف على «الفيس» من جديد، إلا أن أحد النشطاء طمأنه قائلاً: «مفيش حاجة، الحملة كانت ماشية من رفح إلى الشيخ زويد، على الطريق الدولى العام، وأطلق كمين الضرائب الرصاص بشكل استنفارى».
بعدها كتب نجل الدكتور «سليمان» إلى «عمر»، جار طبيب التخدير، وطالبه بالتحرك لمعرفة إلى أين وصل الطبيب؟
وغاب «عمر» لأكثر من ربع ساعة، بدأ خلالها اليأس يتسلل للأهالى الذين يتابعون الموقف، وكتب أحدهم قائلاً: أين ستدفن المسكينة إذا ماتت، وهى غريبة وليس معها أى أوراق ثبوتية؟ ليطلب أحد النشطاء من ابن الطبيب تصوير السيدة، فرد: «لا أستطيع كشف وجهها إنها منتقبة وقد أتعرض لجلسات عرفية إذا صورتها».
فقال ثالث: إذا ماتت سيسلمها الدكتور «سليمان» إلى مشرحة مستشفى الشيخ زويد، وسنكتب كلنا رسالة واحدة «وفاة سيدة حامل، والآن هى بمستشفى الشيخ زويد»، فتدخل أحد النشطاء قائلاً: «يا جماعة ادعوا إن ربنا يقوّمها بالسلامة، فهى لم تمت بعد».
وبعيداً عن العالم الافتراضى، رن جرس الهاتف الأرضى لعيادة الدكتور «سليمان»، فسارع ابنه للرد، ليسأله المتصل: «انتوا اللى عندكم الست اللى بتولد؟»، فيرد: «نعم»، وتابع المتصل: «عندكم عربية؟»، فقال ابن الطبيب: «نعم عندنا عربية»، ليسأل الآخر: «كم رقمها؟»، فقال الشاب: من المتصل؟ ليرد: «أنا ضابط شرطة من معسكر الأمن، كلمنى دكتور التخدير من عند أحد الأشخاص، بسرعة هات العربية وطلّع الست، وأنا هبلغ حالاً قسم الشيخ زويد والكمائن على الطريق، البوابة والشلاق والخروبة والريسة والميناء، وهديهم إشارة يعدوكو، بسرعة حد يطلع بالعربية على مستشفى العريش، لقد أخبرنى دكتور التخدير بناء على كلام الدكتور سليمان بأن السيدة محتاجة نقل دم».
فرد ابن الطبيب: «صحيح يا افندم»، ليتابع الضابط: «اطلعوا بالعربية حالاً، بس إدوا إشارات وانتوا ماشيين، ولعوا نور الصالون والكمائن كلها فتحت قدامكم».
وهرع نجل الدكتور «سليمان» وأخبر والده بما حدث، ثم خرج إلى صديقه ابن الجيران حتى يأتى معه، فيما سارعت الابنة بارتداء عباءتها، وحملت المريضة مع والدها، ووضعوها فى الكرسى الخلفى للسيارة، وجلست الابنة ووضعت رأس الأم فى حجرها، وانطلقت السيارة وهى تعطى إشارات «فلاشر» كما أوصاهم الضابط.
وفى الطريق، سأل جار الطبيب صديقه: «انت متأكد إن اللى كلمك ظابط؟»، فرد: «نعم، لقد أعطانى دلائل، وقال إن طبيب التخدير أخبره بأنه يجب نقلها إلى مستشفى العريش، لأنها تنزف وتحتاج نقل دم».
ومع اقترابهم من قسم الشيخ زويد بدأ القناصة يطلقون الرصاص الاستنفارى فى الهواء، فى العادة تكون الطلقة الأولى فى الهواء والثانية فى السيارة والثالثة فى رأس السائق، وأطلق القناصة بالفعل الطلقة الأولى، ليتشهد كل من فى السيارة «لا إله إلا الله»، وسرعان ما سمعوا صوت القناص من فوق القسم يصرخ: «بسرعة يا ملاكى عدى على العريش بسرعة ربنا معاك، ماتقفش».
تنفس الجميع الصعداء وتحركوا فى اتجاه كمين البوابة، والابن يطمئن نفسه ومن معه قائلاً: «ما دام القسم قال مع السلامة إذن الكمين يعلم أننا سنمر، وبالفعل كمين البوابة كان مفتوحاً ولا يوجد به أحد.
وما إن اقتربت السيارة من كمين «الشلاق» أطلق القناصة رصاصة واحدة، فألقى ابن الطبيب السلام على مجند يعتلى المدرعة، فأشار له بيده «عدى».
وزاد الابن سرعة السيارة، رغم أن الطريق أصبح زلقاً بعد سقوط الأمطار، كما أن به تكسيراً فى الجوانب بسبب العبوات المتفجرة التى تستهدف الآليات العسكرية، وعمليات الترميم والإصلاح وهناك منحنيات خطرة.
وقبل دقائق من وصولهم إلى «كمين الخروبة»، فى منتصف الطريق بين العريش والشيخ زويد، اقترح صديقه: «دعنا ندخل من «زقبة الحرامى»، فهو طريق ملتف بطول 10 كيلومترات تقريباً، نبعد به عن كمين الخروبة، لأنه لا يرحم، وربما لأنه بعيد لم يخبره أحد بأمرنا».
فقال ابن الدكتور: «لا، من يضمن لنا أن الطريق ليس فيه مسلحون أو لصوص، وربما الطائرات الآن تحلق، وقد تقصفنا إذا ابتعدنا عن الطريق الدولى العام، كما أننا سنضطر بعدها للمرور أيضاً من كمين الريسة».
ويقول ابن الطبيب: «وصلنا على مشارف الخروبة فوجدنا جندياً مستنفراً يصوب سلاحه فى اتجاهنا، وتطلع فينا قائلاً: «السلام عليكم.. حالة الولادة بسرعة ماتقفش، خش من الريسة إديناها إشارة».
وهنا ارتفعت الروح المعنوية عند مستقلى السيارة التى اقتربت من «الريسة»، ووقف الأمناء والجنود ومعهم أحد الضباط، وسارعوا برفع الحواجز، قائلين «عدى عدى بسرعة».
استمر الابن فى السير مسرعاً ودخل فى نطاق العريش، وعندها رن هاتف جاره، فشبكات المحمول غير مقطوعة هناك، وكان المتصل الدكتور «سليمان»، الذى كان يريد الاطمئنان عليهم، وسأله: «أين وصلتم؟» فردوا عليه: 10 دقائق ونكون فى مستشفى العريش، عدينا كمين الريسة خلاص، جميع الكمائن معها إشارة».
ومرت السيارة من كمين الميناء القريب من حى الضاحية ووصلت كمين الميدان، ليأتى أحد الجنود إليهم مسرعاً، وقال: «امشى ورا عربية النجدة دى بسرعة»، وفهم الابن والجار أن سيارة النجدة ستوصلهم إلى المستشفى لأن العريش بها حظر مثل الشيخ زويد، وهناك دوريات تطلق الرصاص المباشر على أى سيارة تتحرك فى وقت الحظر.
وما إن توقفت السيارة عند مستشفى العريش، حتى جاء اثنان من العمال بسرير متحرك وحملوا عليه المريضة، ونزلت معها ابنة الدكتور، وقالت: «حالة ولادة»، فردوا: «أخبرنا دكتور التخدير بالحالة، وجهزنا العمليات».
جلس الابن والجار خارج الممر للانتظار، ودخلت الابنة مع الحالة لمدة ساعة كاملة، وفى الواحدة تقريباً خرجت ابنة الطبيب من غرفة العمليات تضحك وتقول: «ولد وهتسميه محمد».