الحرية في أبسط معانيها هي القدرة علي الاختيار بين البدائل..وهذا أمر بدهي، إذ أن إكراه الإنسان علي اختيار طريق واحد، مع وجود طرق أخري غيره، يفقده حريته ويصادر إحساسه بوجوده وإنسانيته..لذا كانت الحرية من فرائض الإسلام، وحرية العقيدة من أعظم قيمه..تأمل قوله تعالي: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف: 29)..وقوله تعالي: "لا إكراه في الدين" (البقرة: 256)..واقتضي عدله ورحمته سبحانه ألا يحرم كافرا حظه في الحياة، من مال أو صحة أو جاه أو سلطان، كما جاء في قوله عز من قائل: "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا" (الإسراء: 20). إن الأصل في خلق الإنسان والحيوان والطير والنبات والحشرات هو التنوع..لأنه يمثل مادة إثراء، وتفاعل، وتدافع، وتنافس، وصراع..ومن هنا كانت دعوة الأنبياء والرسل الكرام، من حض الناس علي نبذ الشر ومقاومته والابتعاد عنه من ناحية، والتنافس والتسابق علي فعل الخيرات من ناحية أخري..لذا يقول ربنا: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل علي العالمين" (البقرة: 251)..من المؤكد أن البشرية، سوف يكون حالها مختلفا تماما إذا كانت من نوع واحد..يقول جل وعلا: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" (هود: 118، 119)..إن اختلاف الألسن، والألوان، والأشكال، والأعراق، والمدارك، والعقول، والأفهام..إلخ، هي من عجائب صنع الله تعالي وقدرته وحكمته..إذ يقول: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين" (الروم: 22).. لأجل ذلك، من الصعب أن يجمع الناس علي شيء واحد..أو فكرة واحدة..من هنا نشأت المذاهب الفقهية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.. في الدول الشمولية ذات النظام الواحد، والفكر الواحد، والمرجعية الواحدة..إلخ، يبدو المجتمع وكأنه آلة..فلا حرية فكر، أو نقد، أو تعبير، أو تظاهر، أو رفض، أو احتجاج..مثل هذا النوع من المجتمعات غالبا ما يكون متخلفا مستبدا فاسدا، فكيف يكون هناك ابتكار أو ابداع والإنسان يعاني من قهر وتسلط وانتهاكات لحقوقه وتزوير لإرادته وسلب لخيراته وموارده؟ كيف يكون هناك ابتكار وابداع والإنسان لا يشعر بروح الانتماء والولاء؟ أنا أعتقد أن الديمقراطية هي اختراع وإبداع إنساني في المقام الأول، شريطة أن تتوافر لها الشروط الواجبة، من حرية وعلم وثقافة وعدالة اجتماعية وتعددية حقيقية واحترام للقانون وتنفيذ لأحكام القضاء، فضلا عن الإعلام الحر..إلخ..وفي ظل ذلك، تتفجر قدرات الإنسان وطاقاته علي الابتكار والإبداع..وفي إطار ذلك أيضا يكون حرص الإنسان علي الدفاع بأغلي ما يملك عن الأوطان..صحيح أنه لا توجد في عالمنا حرية مطلقة، ولا ينبغي أن تكون، وإلا صارت فوضي..إذ هناك دائما وأبدا قيود علي الحرية، حيث تتفاوت المجتمعات فيما بينها حول مساحة الحرية وطبيعتها وحدودها..فالحرية في أمريكا، غيرها في بريطانيا وفرنسا..غيرها في هولنده والسويد والنرويج..وهكذا..وذلك خاضع للخصوصية الثقافية والتاريخ وتجارب الشعوب، علاوة علي التراث والأعراف والتقاليد..لكن لابد من توافر الحد الأدني للحرية التي يشعر معها الإنسان بالقيمة والعزة والكرامة، وأنه سيد في وطنه، وأنه يشارك بشكل فاعل في بناء مجتمعه.