إعطاء المرأة حقوقها يكون تبعاً للظروف الموضوعية الجارية، وما حصلت عليه المرأة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام هو بداية لهذا العطاء، إذ لم تكن التداعيات تستلزم أكثر مما سُمح لها به، ومع ذلك وبالمقارنة بعصر عاش قبل أكثر من 1400 عام ببدائياته وبين اليوم، نجد أننا وفي بعض مناحي الحرية أكثر تراجعاً مما كان سائداً آنذاك، فلم يكن هاجس الاختلاط على سبيل المثال هوساً يشغل به المجتمع نفسه، ولم نسمع بحادثة تروي لنا أن فلاناً كان ضد ركوب امرأته الجمل، وجاء الآخرون وعقدوا الاجتماعات والمشاورات، ليقنعوه ولم يقتنع، ثم وبعد جدال اكتفى بأن تجلس هي على الهودج والحوذي يقودها، فهذه التفاهات لم تدخل بها الرجال ولم يرضوها على أنفسهم، ولكن رجال عصرنا أشغلهم موضوع المرأة، حتى قتلوه خنقاً وتسييساً، وعليك يا امرأة أن تنتظري ما سيتفتق عنه منطق اللامنطق. لماذا لم يأت التشريع على تحرير كامل للرق وإنهائه، ولكنه بدأ بحله فقط؟ لأن إحداث التغييرات المفاجئة في وسائل الإنتاج والعلاقات الإنتاجية يؤدي إلى تحديات كبيرة قد تقصم ظهر المجتمع، وبما أن الرق كان ركناً أساسياً للإنتاج، ثم أتت العمالة لتحل محل الرق، فالحل الأخلاقي في الرق كان ضرورياً، أما الاقتصادي فكان متدرجاً، ثم صدر القرار بإلغائه، وقد تدرّج موضوع قيادة المرأة السعودية السيارة ما فيه الكفاية أخلاقياً واقتصادياً، إلى أن وصلنا إلى تصريحات كبار العلماء بالجواز والسماح لانتفاء علة المنع والتحريم، بالبلدي الحكاية «نضجت واستوت» ولا معنى لركنها ثانية إلى أن تتعفن ونشتم رائحتها «الزكية» بقصص تخرج المرأة عن طورها، ثم يأتي الرجال ويرجمونها في أخلاقها، فأعينوا النساء على طاعتكم، أعانكم الله على طاعتنا، فالأعراف التي تستبقيكم عن اتخاذ قرار البت في الأمر هي مجموعة من تقاليد اجتماعية ناشئة عن بنية اقتصادية وبيئية، هذه العادات وتلك التقاليد إنما تتغيّر وفق تبدّل الزمان وطبيعة المكان وتطور وسائل الإنتاج، أما الأخلاق فهي قانون روحي اجتماعي يلزم الجميع وبغض النظر عن التركيبة الاقتصادية للمجتمع الإنساني وبيئته وأعرافه، فالأخلاق هي صفة عالمية شمولية، أما الأعراف فمحلية ومتغيرة. ذكر الله الأعراف في كتابه من دون تفصيل لأنها «المتحولة»، أما الأخلاق فهي «الوصايا» جاءت في كتابه تعالى تحت عنوان خاص هو «الفرقان»، وقد أمرنا الله أن نكيّف أعرافنا مع الوصايا أي الأخلاق، فهي من حدود الله، فلا تخالف أعرافنا الوصايا، ولا نقول عن الشيء أنه عُرف إذا كان يخالف الوصايا، يقول تعالى: «الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله»، فهل يأمركم معروفكم أن تقضي نساؤكم أوقاتها في حيّز مغلق وضيق مع سائق غريب، لا يفصلها عنه سوى مسافة لا تذكر، تحدّثه في أدق أمورها، فيعرفها عنها ويناقشها فيها وهو في ذلك يتنفس رائحتها ويرقب حركاتها ويحفظ تفاصيلها؟ أمعروفكم يأمركم أن تطاردوا النساء في أسواق عامة لتخرجوهن منها إن ظهر منهن الطرف، ولكن لا بأس أن تزجوهن وتحشروهن مع رجال أجانب تغرّبوا عن نسائهم، فوجدوا في نسائنا عوضاً يعملون فيهن خيالهم؟ ثم هل استأمنتم الأغراب على أعراضكم، ولم تستأمنوا نساءكم على بناتكم؟ فيا له من عُرف جمّد فكركم فأوقعكم في تناقض وعناد جاهل وقد كنتم خير أمة أخرجت للناس، فماذا أصبحتم؟ فإن صدر القرار بقيادة المرأة السيارة، فهل يعني هذا أن المرأة لن تتعرض للمضايقات! لن تُسجّل انتهاكات وحوادث مرور بحقها! لن ولن ولن! طبعاً لا، وليس مطلوباً، فالمرأة بشر من حيث هي تصيب وتخطئ، ولا يقع عليها أن تكون منزّهة عن الأخطاء والعيوب، حتى لا يجد عليها الرجل مأخذاً، وستخطئ وتتعلم درسها، وكذلك يفعل الرجل، ومن لا يتعلم فالقانون يردعه، أما الوقت فكفيل بتجاربه ببث التوعية وزرع التحضّر، ولا عذر للمرأة أن تُعفى ولا يسري عليها القانون، طالما أنها طالبت باعتبارها كياناً كامل الأهلية، وقد تحن المرأة إلى أيام كانت تأمر فيها سائقها، إلى أيام لم تكن تغتدي فيها والطير في وكناتها، كي توصل أبناءها، وتأتي بخضارها، وقد يفصل بين المرأة المترفة وغير المترفة سائق، وكل ذلك جائز ووارد، ولكن لندع للمرأة والرجل حرية الاختيار، فمن حرية الاختيار يتكوّن الإحساس بالمسؤولية، ومن تحمّل المسؤولية تتشكل ثقافة تحمّل النتائج. نقلا عن جريدة الحياة اللندنية