عيب المنتمين للتيار الديني أو بالأحري ما يسمي بالإسلام السياسي انهم لا يشاهدون السينما. علما بأنها سوف تضيف بالقطع إلي مداركهم ووعيهم السياسي خيالا وصورا لم تخطر أبدا علي مخيلتهم. ومن المؤكد أنهم سيجدون أنفسهم في بعض التجارب السينمائية. وربما يتوحدون مع شخصيات تظهر أمامهم علي الشاشة حين يجدون فيها انعكاسا لملامح غابت عن بالهم بينما هي حاضرة جدا في أذهان ومفاهيم الناس العاديين عنهم. وربما في معايشتهم لهذه التجارب أثناء الفرجة يلتقطون الرسائل الموجودة في طي الموضوعات المطروحة. خصوصا في نوعية الأفلام السياسية والاجتماعية الجادة فنيا وموضوعيا ومنها ما يتضمن شخصيات دينية أو تعمل في مجال "الدعوة" وليس بالضرورة إسلامية. الطريف أن كثيراً من الشخصيات المنتمية إلي الإسلام السياسي تغلب عليهم النزعة الحسية المادية ومنهم مثل نجوم السينما يلجأون إلي جراحات التجميل ومن يشتهون النساء واكتناز المال وبالطبع شهوة النفوذ السياسي والتسلط واستخدام سلاح الحرام والحلال دون النظر إلي جوهر السلوك الذاتي. نسيت أن أذكر فضيلة بشعة عالجتها السينما كثيرا وأعني حصار الحريات باسم الدين.. والديكتاتورية بديلا للحرية. الأفلام الجميلة فعلا تدخل ضمن عناصر الاستنارة والتطهر الروحي. ووسيلة من أهم وسائل الاتصال الجماهيري. ومساحة مفتوحة ولها دور عظيم في النسيج المجتمعي الذين يحكمون بالدين في مجال السياسة ويخلطون بين الاثنين يقدمون معادلة منتهية المفعول في عصرنا الحديث. ولذلك ادعوهم إلي حصة في الأسبوع أو أكثر حسب ما يتسع وقتهم إلي الفرجة علي فيلم خيالي بدلا من الأفلام "الواقعية" الركيكة جدا التي أوصلتهم إلي ما وراء الشمس في وجدان الناس. في ذهني وأنا اسطر هذه المقدمة فيلم "وراء التلال" الذي شاهدته مؤخرا في مهرجان كان السينمائي الدولي الخامس والستين "16 - 27 مايو" الذي فاز بالجائزة الكبري للمهرجان. الفيلم للمخرج الروماني كريستيان مونجيو. عزلة الدين "وراء التلال" ووسط ثلوج شتاء قارص تغطي المكان المعزول البعيد عن الناس وعن العاصمة بوخارست توجد كنيسة صغيرة ودير للنساء يضم بضع عذاري. وهذا الدير اختارته الفنانة الجميلة الصغيرة "فيوشينا" مكانا للإقامة والتعبد بعد فترة عاشتها في ملجأ للأيتام مع صديقتها الحميمة "الينا" التي اختارت السفر إلي ألمانيا والعمل هناك. "فيوشينا" وجدت الخلاص والسكون الروحي في التفرغ لعبادة وخدمة الرب في الدير بعد أن رفضت مرافقة صديقتها. الحياة في الدير شديدة القشف باردة صعبة لا مياه ولا نيران كافية تدفء المكان. الأثاث بالغ التواضع يعني بالضرورة فقط. الطعام شحيح ومن صنع أيديهن وبما يتوفر من خلال تربية الطيور ومن غلال للخبز. مخرج الفيلم يرسم هذه الأجواء بريشة فنان تشكيلي بارع ويقود حركة الممثلين بمقدرة موسيقار أوبرالي وبتكثيف شاعر. بحيث يحتوي المتلقي من أول وهلة في الفيلم. بحكم هذا الدير الصغير شديد البرودة - معنويا وموضوعيا - قسيس محافظ جدا. ومنضبط إلي أقصي درجة ومتابع دون كلل للحركة داخل الدير. المحصورة في الأغلب في إقامة الطقوس ومتابعة حظائر الدواجن. وجلب المياه. قبل أن نخطو إلي الدير ونتابع الحياة بداخله ونقطع الطريق الصعب وسط التلال والصقيع نتوقف بانتباه كبير أمام البداية الساخنة واللقاء الحميم جدا في أول الفيلم بين الصديقتين بعد غياب طويل. اللقاء لافت ويستمر لفترة حتي نسمع إحداهما "الراهبة" تقول لصديقتها القادمة من ألمانيا لزيارتها "انتبهي فالناس تنظر إلينا". علي امتداد الطريق وحتي الوصول إلي الدير نتعرف من خلال الحوار علي ملامح من ماضي هذه العلاقة الحميمة بين فتاتين جمع بينهما اليتم وبيت للأيتام عاشتا فيه وكانت حاجة كل منها إلي الأخري كبيرة وملحة. الاثنتان تحتاجان إلي الحب وإلي الاشباع العاطفي والروحي. وثمة اشارة توحي بعلاقة جنسية بينهما وعند الدخول إلي الدير بل قبل الوصول إليه هناك مساحة جغرافية رمزية قطعتها تفصل بين مكانين وعالمين واختيارين وتمثل مفترق طرق. "الينا" اختارت المدينة العصرية للعمل. وواضح أنها لم تف باحتياجاتها المادية والنفسية ولم تعوضها عن فقدان صديقتها. ومن ثم فهي تستميت لإقناعها بالعودة معها إلي ألمانيا. و"فيوشينا" وجدت السكينة في مكان للعبادة وتحت إمرة كاهن لا يعترف ولا يتعاون ولا يستطيع أن يفهم احتياجات البشر الإنسانية التي لا تمثل خطيئة ورفضه لها لا يعني شيئا آخر سوي معاداة الحب. وإغلاق ملكة الفهم أمام الصداقة الإنسانية. والتسامح الذي هو في صلب جميع الأديان. المخرج العبقري يرسم بتفاصيل دقيقة وطبيعية الحياة يتابع العذاب والضنك النفسي الذي تعانيه الصديقة الراهبة أو التي اختارت حياة الرهبنة وبينما تري صديقتها الوحيدة التي جاءت لزيارتها وبهدف إقناعها للعودة معها للحياة سويا في ألمانيا. تراها وهي تتعرض للتعذيب والحصار والصلب بعد أن تم شيطنتها واعتبار تمردها ورفضها للتعاليم الصارمة داخل الدير بمثابة الكفر بعينه. وبنفس الإبداع والرهافة الفنية يرسم الشخصيات الإنسانية التي تقولبت وأصبحت أقرب إلي "الروبوت" في الامتثال وطاعة الأوامر. والانضباط الديني الميكانيكي والفاشي في جوهره.. وصورة القسيس في المقدمة تجسد الإرهاب الديني في أكثر صوره دقة وحسما يثريه حوار مكثف جدا ومختصر يدل علي تغلغل "الايدولوجية" وسريانها في عروقه مع إصراره الوحشي غير الواعي علي تجويع الفتاة المتمردة. وشد جسدها علي صليب من الخشب وعزلها فيما يشبه السجن الانفرادي حتي تلفظ أنفاسها وتموت. علي الجانب الآخر يصور "وراء التلال" رأي الطب الحديث وعلماء النفس في المستشفي الذي انتقلت إليه الفتاة وهي تحتضر عند توصيف حالتها. واعتبار ما جري لها في الدير بمثابة قتل متعمد وجريمة تحتاج إلي شهود.. فمن يشهد؟؟ في هذه الحالة وأمام التجربة المروعة التي عاشت تفاصيلها برغم محاولات طمسها. لم يكن أمام "فيوشينا" غير الشهادة وقول الحقيقة. الحقيقة التي روعتها هي أيضا. الفيلم الذي شارك المخرج بنفسه في كتابة السيناريو مع تاتيانا بكيلسكو مأخوذ عن رواية تسجيلية لمحررة من هيئة ال "بي بي سي" البريطانية كانت قد قامت بتحقيق عن الحياة داخل دير بسبب حادثة مشابهة في رومانيا. وعند تحويلها إلي فيلم اكتسبت الرواية بفضل عناصر التكامل والتناغم والقوة الايحائية والبصرية للصورة والأداء التعبيري الرائع المشحون بالمشاعر وقوة الإيهام لممثلين إحداهما "كوزميتا ستراتان" تقف أمام الكاميرا لأول مرة وهي صحفية ومراسلة تليفزيونية وقد كشفت عن موهبة رائعة وملامح جميلة دقيقة ساعدتها علي التعبير عن العذاب النفسي والألم الحقيقي طوال تجربة صعبة عاشتها طوال مدة تصوير الفيلم. الممثلة الأخري كريستينا فلاتور أبدعت بدورها في تجسيد شخصية مركبة وصعبة جدا وفي ظروف عكستها بقوة وباداء رصين مع سيطرة علي انفعالات متباينة يتطلبها الدور ولذا لم يكن مدهشا ان يستقبل جمهور مهرجان كان إعلان حصولهما معا علي جائزة أفضل تمثيل نسائي وحصول السيناريو علي جائزة أفضل تمثيل بحماس بالغ. مثل هذه النوعية من الافلام التي تعكس محنة إنسانية في مواجهة البطش الديني الناعم الذي يصادر احتياجات الإنسان الأولية الضرورية باعتباره إنسانا تتشكل حياته بحزمة من الأعصاب وشحنات من المشاعر. ونوبات من الأحاسيس واحتياجات دائمة تميزه عن الحيوان وعن الروبوت.. مثل هذه النوعية لها تأثير نافذ في الروح. ورومانيا عانت من الديكتاتورية والفاشية تحت حكم شاوسيسكو معاناة مخيفة وقد خلفت هذه الفاشية السياسية مظاهر باطشة في المؤسسات الأخري الحاكمة ومنها المؤسسة الدينية التي تتحول في ظروف الانحطاط إلي كيان يعادي العلم والتقدم الحضاري وهذه الأوضاع السياسية الطاحنة ولدت موجة جديدة سينمائية في رومانيا ومن نجومها مخرج هذا الفيلم الذي سبق أن نال سعفة ذهبية عن فيلم "4 شهور و3 أسابيع ويومان" في عام 2007 ويتناول أيضا حكاية فتاتين بنفس القوة والرهافة ومن خلال معالجة مركبة. وأداء مقنع وآسر معتمدا علي دراما إنسانية عالمية يمكن التفاعل معها في أي مكان وأي زمان رغم وقائعها التي تدور في أماكن واقعية ومحددة جغرفيا. في هذا الحدث الثقافي الفني مهرجان كان 2012 تجارب سينمائية بديعة جدا إنسانيا. ومثقفة ومشبعة عقليا وتنطوي علي رسائل تحمل في طياتها أنبل مباديء الدين وأقصي الطرق للتواصل مع السماء هذا إذا آمنا بأن الدين حيي ويصلح لكل العصور ولا يفرق ولا يميز بين الناس حسب اللون أو الجنس أو العقيدة.