عرض "بلاد أضيق من الحب" الذي يقدمه مركز الهناجر علي مسرح الهوسابير عن نص الكاتب الراحل سعد الله ونوس. يمثل مغامرة جديدة للمخرج طارق الدويري تؤكد نضج تجربته واستواءها. وقدرته علي تجاوز نفسه وتقديم الجديد والمختلف سعياً إلي الإمساك بأشياء تخصه بعيداً عن التقليد والاستنساخ. احتفي طارق الدويري في هذا العرض بالصورة. وحشد من التشكيلات الجمالية ما جعل عرضه أوسع من المسرح في مقابل البلاد التي أضيق من الحب.. أطلق العناصر لخياله ليصنع صورة ثرية ومتعددة الأبعاد ومتحررة إلي أقصي طاقتها في موازاة ذلك الواقع القبيح الذي لا يتسع لقصة حب بين رجل في أيامه الأخيرة بعد أن أصيب بمرض عضال. وبين فتاة تؤمن به وتحبه. وعلي الرغم من أن مسرح سعد الله ونوس يعتمد أساساً علي الكلمة فقد وازن طارق الدويري بتشكيلاته الجمالية بين الكلمة والصورة.. فالعرض صور تتوالي وتتوازي معاً مما يضع المشاهد وسط غابة من الصور عليه أن يحفِّز حواسه جميعاً كي تتابع وتستشف وتحلِّل وتتساءل. ما بين المادة الفيلمية والسلويت والرقص ولحظات الإضاءة الدالة والديكورات المصممة بعناية لتعكس تلك الأجواء الكئيبة والمرعبة التي يعيشها الحبيبان. تدور أحداث العرض في أجواء أقرب إلي الشبحة والكابوسية عكستها طريقة أداء الممثلين حيث كان الجميع يؤدون أدوارهم وكأنهم مذبوحون أو كأنهم شخصيات تم استدعاؤها من الموت لتعود إليه ثانية فالأرواح الثرية التي لا تتسق مع النظام الصارم ولا يشغلها سوي البحث عن الجمال لا يمكنها أن تأتلف مع تلك الأرواح الفقيرة التي لا يهمها الجمال بقدر ما يهمها النظام وأن يسير كل شيء وفق آلية محددة لا يحيد عنها أبداً. العرض يدين تلك البلاد الضيقة عن الحب والتي لم تستوعب قصة الحب بين شاعر ورسامة فيفترقان لتعود هي إلي ملاعب طفولتها في دلالة علي انفصالها عن العالم أو حتي موتها.. ويموت هو الاخر ويتحول إلي صخرة علي هيئة تمثال في إحالة إلي أسطورة "إيساف ونائلة". أدي أشرف قارون دور الشاعر المريض الباحث عن الحب والحرية بإنهاك واضح عاكساً الحالة النفسية والبدنية لذلك المعذب. بوعي وحرفية وبطريقة سلسة وبسيطة. وكذلك ريم حجاب في دور الرسامة المحبة بطفولية وتلقائية ومهارة وبدت كما لو كانت لا تمثل علي الإطلاق وهو مانحها ذلك الحضور الطيب علي المسرح. فريق العمل في أغلبه كان موفقاً ومتألقاً: شهاب إبراهيم. محمد قارون. سهام عبدالسلام. نجلاء يونس. إضاءة محمد حسني. مادة فيلمية مروة زين مقطوعات موسيقية حسن زكي. وفي ظني أن طارق الدويري لو "صفي" هذا العرض قليلاً واختزل الجزء الأول منه لصار أكثر حيوية وانضباطاً. فالجزء الأول فيه ثرثرة لا لزوم لها ولا تتسق مع الحالة العامة للعرض. لكن العرض يبقي في النهاية واحداً من العروض الجيدة والمهمة والتي تطمح بدون سقف.