علي بعد آلاف الأميال من مصر.. وفي أقصي شمال القارة الأمريكية "دولة كندا" حيث وصلت إليها في زيارة خاصة.. وفي الساعة الحادية عشرة من صباح أمس بالتوقيت المحلي كنت أتصفح الصحف المصرية علي الانترنت باحثا عن موضوع لافت للنظر أكتب فيه.. عندما تلقيت مكالمة تليفونية علي المحمول حملت إليّ النبأ الفاجعة: البقاء لله في الاستاذ محسن محمد. لم أرد علي المتكلم.. ولم أسأله: متي؟! وكيف؟! وإنما وضعت التليفون جانبا.. وانتابني صمت غريب وأسي عميق.. وسرح فكري في 50 عاما مضت من عملي في الصحافة تتلمذت خلالها علي يد أساتذة عظماء وزاملت زملاء أعزاء سار بهم وبنا قطار الحياة ونزل منهم من نزل في أول الطريق أو في منتصفه وبقي منهم من بقي يواصل حمل الشعلة ويضيء للسالكين دروب الحياة. نظرت خلفي أستعرض عشرات الأسماء الذين توقفت مسيرتهم وهم في سن الشباب أو في سن النضج فتزاحمت في خاطري. ومع كل اسم كانت تسقط دمعة ويضطرب القلب المرهق فيهتز القلم في يدي. ماذا أقول أو أكتب عن محسن محمد؟! كيف يكتب التلميذ الذي أصبح شيخا عن عملاق أثري المهنة وأبرأها من أمراضها وأحيا مواتها كما ابرأ عيسي عليه السلام الأكمه والأبرص وأحيا الموتي بإذن الله. لم يكن راحلنا الكبير مدرسة صحفية بل كان جامعة علمية وعملية تخرج فيها زملاء أصبحوا الآن نجوما في سماء الصحافة والاعلام.. كان عميدا لهذه الجامعة اتسم بالصرامة والجدية.. لم أره يضحك أو يبتسم إلا في أواخر سنواته عندما أقعده المرض. حتي ابتسامته لم تكن تنم عن سعادة بقدر ما كانت تنطوي علي أسي وحزن من متناقضات الحياة. قضي محسن محمد حياته في شقاء دائم.. لم يتربح أو يتكسب من مناصبه التي تولاها وهي كثيرة.. مديراً لتحرير الجمهورية.. ثم نائبا لرئيس تحرير صحيفة الأخبار.. ثم رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية.. ثم رئيسا لمجلس إدارة دار التحرير للطبع والنشر.. كانت وسيلته الوحيدة لكسب الرزق هي فكره وقلمه الذي عبر به عن مشاكل مصر والعالم العربي. بل وساح بهذا القلم في انحاء العالم ينقل ما خفي عنا من أخبار وأسرار ومبتكرات مشفوعة بالتحليل الموضوعي الذي يحمل الفائدة لمصر شعبا ووطنا. هذا هو محسن محمد المحارب بسلاح الكلمة.. لم يسقط القلم من يده علي مدي أكثر من 60 عاما إلا بعد خروج آخر نفس للحياة من صدره.. هوي أحد عمالقة صاحبة الجلالة ولحق بمصطفي وعلي أمين وجلال الدين الحمامصي وأحمد بهاء الدين وعلي الجمال وموسي صبري واحسان عبدالقدوس وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ وابراهيم نوار واسماعيل الحبروك وصلاح جاهين وكتيبة كبري من أرباب القلم لا يتسع المقام لحصرهم. فارقنا الاستاذ الذي لم يبخل بعلمه وخبرته علي كل من طلب الاستفادة منه.. نصح.. ونقد.. ووجه.. وحمسّ.. وشجع كل من رأي فيه لمحة أو ومضة صحفية.. فقد كانت الصحافة جينة من جيناته التي شكلت شخصيته. استراح الجسد المكدود.. وانطفأ الفكر المتوهج.. وسقط القلم من يد المحارب.. وفقدت الصحافة ومؤسسة دار التحرير علما كبيرا من أعلامها.. نبكيك يا "محسن بك" من قلوبنا.. ونذرف عليك دمعة حزينة اغرورقت بها عيوننا وفاضت بها مآقينا. سلام عليك إلي يوم نلقاك.. ودعوات صادقة مخلصة بالرحمة والمغفرة والرضوان.