لم أكن صديقاً للكاتب الراحل جلال عامر.. حصلت علي رقم هاتفه منذ شهرين.. أردت أن أسمع صوته وأعبر له عن اعجابي بكتاباته. هاتفته ولم يرد.. وأنا أخذتني الجلالة وغضبت باعتبار ان اسمي يظهر علي شاشة أي هاتف أطلبه.. الآن أحمد الله انه لم يرد. "اشتمني بأمي ولا تقل عني كاتبا ساخرا.. عنده ألف حق.. ليس لأن الكتابة الساخرة عيب أو لأنها أقل قدرا من الكتابة الجادة ولكن لأن جلال عامر الذي لابد كان يدرك ذلك وإن لم يعلنه قد تجاوز فكرة التصنيف.. جاء بكتابة أخري فعلاً. تخصه وحده ولا تشبه سوي ذاتها. كتابات جلال عامر مبهجة ومدهشة وموجعة.. بسيطة وعميقة. يجمع فيها بين ما لا يتيسر جمعه إلا لصاحب موهبة استثنائية. مثقف بدرجة رفيع. ابن بلد "اراري". حكيم وفيلسوف. صاحب خبرات حياتية وإنسانية تحتاج عشرة أعمار لتحصيلها. منحاز دون مواربة للمواطن البسيط. يقود دراجته وهو "سايب ايده". خلطة عجيبة وغريبة لا تعرف من أين يأتي بها. زاوية خاصة ينظر من خلالها إلي العالم ويعبر عن مومقفه تجاهه.. "بالحب وحده سلمت قلبي إليك.. وبدون ايصال" ثم يكلمك عن نظرية الدقة ونظرية الاحتمال. وبعد أن يغرقك بالإضاءات والدهشات يقول لك "وهناك موضوع آخر في غاية الأهمية لكنني نسيته وعندما أتذكره سوف اتصل بك". لم يكن جلال عامر مضحكا أو مسليا. ومن الظلم أن نصفه بأنه كان مجرد كاتب ساخر ومن الظلم أن نصفه بأنه كان واحدا من ظرفاء العصر.. هذا استسهال ووصف مخل لا يحتوي كاتبا في حجمه. فالذي يشق مجري يخصه وحده ويكتب علي غير مثال من الصعب وضعه في قالب بعينه.. هكذا كان جلال عامر. لا تأتي مثل هذه الكتابة بقرار.. يصحو المواطن من نومه. وقبل أن يغسل وجهه أو حتي يغير ريقه. يقرر أن يكون كاتبا استثنائيا. كنت دائماً مندهشاً من غزارة جلال عامر. أتابع مقالاته وومضاته علي تويتر. وأعترف انني في لحظة شر ظننت أن سيولة تلك ستنفد يوما وربما عجز عن الإضافة. فمن أين لكاتب بكل هذه الطاقة وكل هذه الطزاجة والحيوية؟ لكنه كان دائما يدهشني ويربكني بجديده الذي لا يخطر علي بال. وعلي الرغم من ان كتابات جلال عامر كانت واحدة من أبرز وأهم الكتابات التي تسهم في تطوير الوعي وتدفع إلي السؤال فإن الرجل علي عكس الكثير من الكتاب لم يكن متثاقفاً.. كان يمرر أعمق الأفكار وأعقدها بسلاسة وعذوبة نادرة.. كان يقول عن نفسه انه مواطن علي باب الله.. لا تكلف ولا ادعاء.. لم أعرفه شخصيا كما ذكرت لكني أحسبه كان يعيش مثلما يكتب. ويكتب مثلما يعيش دون أقنعة أو حتي مجرد رتوش.. وتلك سر عبقريته وتفرده. تأخر جلال عامر عنا كثيرا.. وعندما حضر رحل سريعا. لكن أثره الذي تركه فينا عوض الغياب الطويل والرحيل السريع. حيث يضعه بجدارة ضمن قائمة كتابنا الخالدين.. وأحمد الله انه لم يرد علي مكالمتي!!