في عرض "النجاة" الذي يقدمه مسرح الطليعة بقاعة يوسف إدريس تأليف نجيب محفوظ وإخراج جلال توفيق أنت أمام غابة متشابكة من الأسئلة التي تتوالي عليك علي مدي 45 دقيقة هي مدة العرض. سيدة مطاردة من الشرطة تلجأ إلي شقة رجل أعزب لا أسماء للشخصيات ولا تاريخ شخصياً محدداً لها. حوار مقتضب يطرح من الأسئلة أكثر مما يقدم من إجابات أو إن شئت الدقة لا يقدم أية إجابات لتظل الأمور طوال الوقت معلقة في فضاء العرض تاركة لك كمشاهد مساحات واسعة للتأويل ومحاولة ملء الفراغات التي يتركها العرض وهو ما يمنح العمل عمقاً لا نهائياً ودلالات متعددة عليك أن تسعي لفض مغاليقها وفك شفراتها. ومثل هذه النوعية من العروض إذا لم يتوفر لها مخرج موهوب وكبير وممثلون علي درجة عالية من الوعي بطبيعة ودوافع الشخصيات التي يقدمونها تحول الأمر إلي "ضرب في الفراغ" لكن خبرة المخرج الكبير جلال توفيق مكنته من تقديم هذه "الحالة" شديدة العمق بقدر كبير من البساطة لكنها ليست تلك البساطة التي تكتفي بالسطح والقشور بل التي تحفر هي الأخري بعمق ولا تغفل في الوقت نفسه عن منحنا بعض المفاتيح التي تعيننا علي التواصل من خلال إيقاع مثل الوتر المشدود وصورة تحاول إكمال الناقص أو المبتور أو المخبوء في الحوار وهي في كل الأحوال تلمح ولا تصرح.. بحركة. رقصة. إيماءة. قطعة موسيقي. لحظة إظلام سريعة ليتضافر كل ذلك صانعاً لوحة تشكيلية مفعمة بالحيوية والثراء. ولأن ممثلي العرض كانوا علي خطي المخرج فقد جاء الأداء متسقاً تماماً مع الرؤية الفكرية والتشكيلية له. لا افتعال ولا تكلف. إنما البساطة الممزوجة بالعمق هي سيدة الموقف.. ياسر جلال في دور الرجل الأعزب الذي يأوي سيدة مطاردة من الشرطة ولا يعرف شيئاً عنها ولا عن جريمتها. كان علي درجة عالية من الإجادة والتمكن وقادراً علي الانتقال بسلاسة من حالة إلي أخري مطوعاً جسده ونبرات صوته وتعبيرات وجهه لكل حالة فكان مقنعاً ومتمكناً وراسخاً.. وبالمثل جاء أداء رباب طارق التي أراها علي المسرح لأول مرة وهي فنانة موهوبة بحق. ورغم قصر دور مجدي فكري فإن حضوره كان جيداً ومتوهجاً. وأدي محمد عمر دور ضابط الشرطة بشكل جيد وفي حدود ما يتطلبه الدور. كما أدي ديكور زناد أبوالعينين وظيفته العملية والجمالية بشكل سلس دون إثقال علي العرض أو إعاقة لحركة الممثلين خاصة أن العرض داخل قاعة صغيرة وهو ما يضع مصمم الديكور في مأزق كيفية إحداث التوازن بين الوظيفة الجمالية والوظيفة العملية داخل العرض. عرض "النجاة" إضافة مهمة وثرية قدمها مخرج كبير عائد بعد غياب. ونقطة ضوء جديدة لمسرح الطليعة. وشهادة في حق المسرح "الكلاسيكي" وأي فن كلاسيكي. تؤكد أنه لا شكل يموت طالما توفر له مبدع كبير قادر علي تجديد طاقاته.