العنوان لفيلم تسجيلي طويل للمخرجة روجينا بسالي عن حياة الفنانة سناء جميل "1930 - 2002". الفيلم تحقيق مصور يعتمد علي اللقاءات الشخصية مع بعض المواد الموضوعية المختارة من حياة هذه الفنانة التي ولدت في محافظة المنيا لأسرة قبطية وحملت اثم سريا يوسف عطا الله والحقيقة انه عمل جيد وجدير بالاهتمام. سناء جميل تحتل مساحة خاصة ومميزة للغاية في ألبوم فن الأداء التمثيلي المصري. فنانة جسدت أدوارا بارزة علي خشبة المسرح وشاشة التليفزيون والسينما وفي الراديو.. أي انها تعاملت مع كل وسائط التعبير المرئية والمسموعة وتواصلت مع الجمهور بأكثر من لغة وأكثر من لهجة وأكثر من لون فني درامي. كوميدي. ميلودراما. تاريخي.. وطوال مشوارها لم تخبو قوة الموهبة ولم تستنهض هي بقيمة المعرفة والثقافة والخبرة كزاد يصقل التجربة ويدعم الموهبة ويبقي علي لياقة الفنان ومهاراته المهنية. ثمة "صلة رحم" بقيت بين الفنانة سناء جميل وجمهورها ولم ينفصم الحبل السري بينها حتي وان لم تحظ بالوهج الاعلامي والنقدي الذي يضاهي قوة حضورها وتأثيرها. و"صلة الرحم" هنا وفي هذا السياق تشير إلي رابطة لا تنفصم تمثل بالنسبة للفنان عزوة وسندا وزادا معنويا ونفسيا تخفف من ثقل المسئولية ووطأة المعاناة والفنان الموهوب العاشق للفن والمؤمن بهذه الصلة يدرك قيمة هذه الصلة وسناء جميل بتكوينها الإنساني وعشقها الأصيل للفن تعرف معني أن يكون الإنسان فنانا والفنان انسانا وانه في النهاية طاقة واكسير للحياة لكل عشاقه. وقيمة الفيلم ليس في شهادة من قدموا شهاداتهم من الفنانين فحسب وهم أصحاب قامة وقيمة بالتأكيد وقد زاملوا سناء جميل وكانوا شهودا علي بعض فصول حياتها ويدركون حجم وقيمة الموهبة التي تمتلكها. قيمة هذا الفيلم بالنسبة لي شخصياً في تيار الخواطر التي أثارها عندي. فهذه الشخصية سناء وحكايتها تروي حكاية "طفل" من الجنوب في ثلاثينيات القرن الماضي "بنت" من الصعيد في هذه الفترة وما أدراك ما تعنيه "الأنثي" بالذات في هذه المنطقة من الوطن وفي ذلك التوقيت حيث التقاليد المنغلقة الصارمة والتميز الصارم في "النوع" والطبقة الاجتماعية والمجتمع "الذكوري" بصورته المعروفة المنحازة بالكامل إلي الرجل. أتذكر قول أمي التي عاشت في الصعيد في هذه الفترة حيث كان يعمل أبي ولم يكن يعيش لها أبناء ذكور. تقول كانوا يقولون في سياق عزائهم "يا خيتي ولد ويموت أحسن من بنت وتعيش" ويمكنك أن تسرح طويلاً وأنت تتلقي معلومة عن باكورة حياتها حين ألقت بها الأسرة في مدرسة داخلية وتركوها ورحلوا إلي حيث لا عنوان ولا دليل أو حين تتابع قوة تحملها بعد الخروج من المدرسة بعد انتهاء سنوات الدراسة إلي حيث لا عائل ولا معين حقيقي وإصرارها علي دراسة التمثيل في معهد للفنون المسرحية.. وهنا لابد أن تستحضر صيحة يوسف وهبي "يا للهول".. ثم تكررها بنغمة معاكسة مأساوية وانت تتخيل الصفعة المدوية التي أصابتها بالصمم جزئيا من شقيق التقت به مصادفة ولم تكن تربطها به "صلة رحم" فعلية عندما سمع منها انها ستكون ممثلة. ذلك كله لم ينل من عزيمة سناء التي وجهت آذانا صاغية لنداءات الفن ودخلته من بابه العلمي الممنهج وأعتقد ان "التعليم" الذي حصلت عليه في المدرسة حين خرج الأهل من حياتها واختفوا لترك أثرا إيجابيا يؤكد المثل "رب ضارة نافعة". في القاهرة تلقفها أساتذة أمسكوا بيدها حين آمنوا بموهبتها ذلك لأن مصر التي أنجبت "سناء" ابنة "الجنوب" ولدت مثلها في الشمال والشرق رجال أساتذة آمنوا بالحرية وبالفن أصبغوا عليها اسمها الذي اشتهرت به وفتحوا لها نافذة للتعبير أو عدة نوافد ومنهم الرجل الذي أعجب بها وتزوجها ورافقها حتي مثواها الأخير وهو لويس جريس الكاتب والمفكر الليبرالي الذي أبصر بريق هذه الإنسانة المغامرة الثائرة التواقة للحرية والعاشقة للفن والمتطلعة إلي دور لها ومكانة تحت الشمس. سناء جميل المرأة الصعيدية المفوهة التي تجيد العربية والفرنسية بطلاقة. امرأة عصرية بالمعني الحضاري والنفسي لم تعرف التعصب ولا التمييز بأشكاله الذي أحاط بها منذ نعومة أظافرها ولم تمارس الخشونة ولا القسوة إلا في بعض أدوارها التي تجسد بشاعة هذه الصفات حين تشكل قسمات البشر وربما لهذه الأسباب لم يسقط منها دورا ولم تكن أبدا باهتة في أي شخصية اسندت إليها ايا كانت مكوناتها أو انتمائها أو موقعها في الزمان والمكان. ظلت سناء طوال مشوارها طاقة فعالة. حزمة أعصاب حساسة وكتلة من المشاعر وصرح من الخبرة الفطرية والمكتسبة. كثير من الشخصيات التي جسدتها في الأعمال السينمائية والمسرحية والتليفزيونية مازالت تشكل نماذج باقية وحية في الوجدان الجمعي للمصريين "نفيسة" في "بداية ونهاية" و"حفيظة" في "الزوجة الثانية" وفاطمة فضة في "الرايا البيضا" والأم الملتاعة بجرائمها في "المجهول" ودورها في "زهرة الصبار" والجدة في "اضحك الصورة تطلع حلوة" و"خالتي صفية والدير" إلخ قائمة الأعمال الجادة والمحترمة التي يتضمنها ميراثها الفني طويلة وجميلة. أجمل ما في حكاية سناء الفيلم انها حكاية تستحق أن تروي ليس فقط في عمل واحد وإنما تحتمل العديد من الأعمال. حكاية امرأة مصرية قلبا وقالبا. اختارت بكامل إرادتها أن تكون ممثلة فنانة تصدت بحكمة وشجاعة مدهشة وقوة تحمل للمتاريس الاجتماعية والثقافية وانتصرت عليها وأصبحت لها حكاية جميلة.. "حكاية سناء".