كتب الناقد الكبيرالراحل رجاء النقاش هذا المقال عن يحيي حقي وروايته قنديل أم هاشم . نعيد نشره هنا بمناسبة مرور 25 عاماً علي رحيل يحيي حقي: قنديل ام هاشم كما هو معروف تقوم علي شخصية اسماعيل بن السيدة زينب الذي تعلم في انجلترا وعاد بعد سبع سنوات ليعمل طبيبا للعيون واذا به يجد ابنة عمه فاطمة مريضة بعينيها ومهددة بان تفقد بصرها وكانت امها تعالجها بزيت ماخوذ من قنديل ام هاشم وام هاشم طبعا هي السيدة زينب ويغضب اسماعيل وذهب الي مقام السيدة. ويحطم القنديل وينهال الناس علي اسماعيل ضربا واهانة عقابا له علي جريمته في حق مقام السيدة. ويستمر الصراع حتي يتنبه اسماعيل الي انه مخطيء وانه يريد ان يفرض علي ابناء بلده بالقوة طريقة الحياة والتفكير في الغرب وقد اكتشف طبيب العيون ان هذا لايجدي وان الذي يجدي حقا هو ان يتعاطف مع اهله وان يساعدهم علي الخروج من تخلفهم بالحسني والمحبة واحترام تراثهم الروحي والعقلي وبعد ان اهتدي اسماعيل الي ذلك استطاع ان يعالج فاطمة وان يرد اليها البصر لانها وثقت به واطمأنت اليه واحست بما يحمله لها من تعاطف ومحبة وتنتهي القصة بان يتزوج اسماعيل من فاطمة وان يجد السعادة التي كان يبحث عنها ويحلم بها وان يتفاهم مع اهله وبيئته وان يحظي بالاحترام من جانب الجميع ورغبتهم في الانتفاع بعلمه كطبيب للعيون بعد ان اصبح انسانا حكيما يعرف كيف يتعامل مع الناس باخلاص وصدق ونية طيبة. ذلك هو ملخص سريع للقصة المعروفة. ونحن اذا اخذنا القصة علي وجهها الظاهر فسوف نراها قصة ساذجة وربما نراها ايضا قصة غير معقولة وان بينها وبين الواقع مسافة كبيرة وقراءة القصة علي هذا الوجه الظاهر خطا والصواب هو قراءتها علي ان لها وجها اخر فيه اشارات رمزية رقيقة شفافة وهنا سوف نسمع فيها صوتا عميقا موثرا يقول لنا ان التطور المفاجيء العنيف لابد ان ينتهي الي الاصطدام والانهيار اما التطور الذي اخذ الواقع بعين الاعتبار ويقترب منه في محبة وعاطفة صادقة وفهم انساني صحيح للنفوس فهو وحدة التطور القادر علي ان ينهض بالناس ويفتح امامهم ابواب التقدم والقدرة علي مواجهه الحياة وخلاصه هذه القصة البديعة هي ان الطبيب اذا كان كارها للمريض الذي يعالجه محتقرا له فانه من المستحيل ان يستطيع مساعدة هذا المريض علي الشفاء والطبيب هنا هو رمز للسياسي والمفكر والاديب والفنان وكل من له دور في قيادة المجتمع والناس علي ان هناك قضية حساسة جدا اثيرت ضد يحيي حقي وقصته قنديل ام هاشم فقد راي البعض ان في هذه القصة تعبيرا عن مشاعر عدائية ضد شعب مصر مما يشير الي ان يحيي حقي يكره المصريين ولا يشعر نحوهم باي حب او تعاطف ومن المدهش حقا ان يحيي حقي تأثر بهذه الاراء فانتقد نفسه نقدا بالغ القسوة والعنف وجاء ذلك علي لسانه في حوار اذاعي طويل اجراه معه المذيع المثقف عادل النادي بتاريخ 25 ابريل سنه 1991 اي قبل وفاة يحيي حقي بعام واحد وثمانية شهور حيث انه توفي في10 ديسمبر سنه 1992 وهذا الحديث نشرته مجلة الاذاعة والتليفزيون في عدة حلقات بعد ذلك وفي هذا الحديث يقول يحيي حقي عن نفسه انني الان عندما اعيد قراءة مقاطع مما كتبته في قنديل ام هاشم اقول انني كنت قليل الادب وكنت بذيئا لانني شتمت الشعب المصري شتائم فظيعة جدا وانا شديد الخجل بسبب ذلك فعندما اقول عن الشعب ان بوله فيه دم وديدان اي انه مصاب بالبلهارسيا والانكلستوما او اقول عن الناس انهم يسيرون كالقطيع فليس فيهم من يسأل او يثور في مثل هذا الكلام بذاءة شديدة ولابد من الاعتذار عنها ذلك ما قاله يحيي حقي بلسانه عن نفسه ونحن هنا نقف مع يحيي حقي ضد يحيي حقي ففي الادب الصادق الجميل فان الزعل مرفوع اي اننا لايجوز ان نزعل من اديب فنان قلبه علينا ومن حق اديب كبير موهوب وحساس ونبيل مثل يحيي حقي ان يقول ما قاله عن شعبه عندما وجد في هذا الشعب أحوال لا ترضيه في النصف الاول من القرن العشرين والغاضب الناقد الناقم هنا وهو يحيي حقي يريد بشعبه خيرا ولايريد به السوء وقد كان الاديب الروسي انطون تشيكوف 1860 1904 يقول ان بلدنا روسيا بلد سخيف غليظ القلب ولم يتهمه احد بالبذاءة او قلة الادب او انعدام الوطنية بل ان الذين يفهمون معني الغضب المقدس عند الادباء والفنانين العظماء قد اعتبروا ما قاله تشيكوف صرخة من اجل نهضة شعبه وبلاده وهكذا نعتبر نحن كلمات يحيي حقي او يجب علينا ان نعتبرها كذلك فقد كانت كلها كلمات مبنية علي حسن النية والمشاعر الطيبة النبيلة والرغبة في ان يتحرك اهل مصر من نومهم واستسلامهم لظروفهم الصعبة السيئة