هذا فيلم تسجيلي يطرح تحديات أمام المشاهد وأكثر منها أمام الناقد. انه مزيج من الفلسفة والسخرية والمحاكاة الخيالية لشخصية افتراضية ليست غائبة في الواقع ولم تكن أبدًا كذلك من بدايات الخليقة وفجر التاريخ انه "لا شيء". فيلم عن "لا شيء" "Nothing) الذي يعاني من عدم فهم الناس له. وقد جاء يخاطبهم لأول ولآخر مرة!! من زمان "ولا شيء" حاضر. بل انه أكثر حضورًا من أي وقت. انه شوكة في "الأنا" في "ذات" المجتمع. فهذا الفيلم يمثل التجربة الوحيدة التي يشارك فيها العالم. جميع المجتمعات بداية من المجتمعات الوثنية وحتي تلك التي تدين بديانات سماوية. "فاللا شيء موجود في فضاء واسع مجرد. وفي قلب مخاوف وفراغات ومشاعر متلونة وأحلام يقظة وإفلاسات بشرية. وأشياء نسبية وفي قلب الروحانيات وفي أعماق الصمت. وفي عقائد صينية وهندية وبوذية.. في كل مظاهر وظواهر الوجود البشري والفيلم "في مدح لا شيء" يتناول موضوعًا يفترض أنه مجرد وغير ممسوك ولا محسوس. ولكنه في نفس الوقت موجود ويطرح أكثر التساؤلات الإنسانية والتحديات التي لها صفة الاستمرارية. فالفلاسفةجاهدوا من أجل استيعاب "لا شيء" والمتصوفون يحلمون بقدرتهم علي تخيله. والعلماء استماتوا من أجل تجسيده وخلقه. والفلكيون بحثوا عنه دون فائدة ولم يستطيعوا تحديده. والمنطقيون تمردوا اعتمادًا عليه والدينيون اشتاقوا جدًا لتحضير كل شيء من خلاله. ونجح الرياضيون والسياسيون مؤخرًا في استيعابه. ومع ذلك ظلت غالبية الناس تلفظه وترتعد منه ومنذ فجر التاريخ. مفهوم "لا شيء" كان دائمًا مفهومًا باعثًا للقلق. مهمومًا بالحياة. بمعانيها. فقد ظل سؤالا مركزيا في كل شيء. يهز أساسات التفكير المعاصر. ولكنه بقي يدهشنا بإسقاطات تثير أشياء في اللا وعي. هل فهمت شيئًا؟ انه عمل لن تمل قراءته وتتوق للفرجة عليه مرات. ومع كل هذا وذاك فإن "لا شيء" يعتبر جزءًا عضويًا في الوجود الإنساني رغم ما نبذله من محاولات تجاهله. هذه التجربة التسجيلية المحيرة والصعبة رغم ما تثيره من متعة ذهنية تقدم محاكاة للميراث الطويل الممتد لعدم فهمنا أو سوء فهمنا عن "لا شيء". تجربة تتناول من خلال التعليق الشعري الفلسفي رغم بساطته الشديدة علي المجتمع المعاصر في مواقعه المختلفة علي الأرض ولكن من وجهة نظر "لا شيء" "Nothing) انه أي الفيلم نتيجة بحث جماعي فكري استدعي قراءة 200 ألف صفحة تضمها مكتبات مختارة بعناية وقام بتصويره في الأماكن العديدة عشرات المصورين المحترفين والهواة ويقوم بروايته والتعليق عليه واحد من أكثر نجوم الروك آند روك شهرة وجنون هو إيجي بوب "Iggy Pop) وبأسلوب وأداء صوتي عميق وجذاب تألفه الأذن. والفيلم إخراج وكتابة موريس متيتش وساهم في إنتاجه كل من صربيا وفرنسا وكرواتيا. وقد شاهدناه في القاهرة من خلال بانوراما الفيلم الأوروبي "8 18 نوفمبر". وسبق عرضه في عدة مهرجانات منها مهرجان الجونة. ويعتمد الفيلم علي شريط صوري جميل لمشاهد طبيعية من دول وأماكن ومدن عديدة يسبقها عناوين مكتوبة تنقل جزءا مختصرا ودالا من العصف الذهني الذي سبق الاختيارات المدققة للمشاهد ويتنقل للمتفرج تجسيدا ل "لا شيء" طريف. وساخر وضاحك. أو فلسفي أو سياسي وكأننا أمام مانفستو مصور غير مألوف لوجود "لا شيء" داخل ثنايا ظواهر عديدة وأحداث تاريخية وتطورات إنسانية علي امتداد التاريخ وفي داخل الفرد والجماعة. والفيلم يكشف عن المزيد من المساحات الفكرية والجمالية التي يجتازها العمل التسجيلي ويعالج موضوعات بأبعاد تتجاوز التقليدي والمفاهيم المحدودة حول الإمكانيات المتاحة ليس علي المستوي المرئي الذي يمكن تصويره وتجسيده وإنما أيضا علي مستوي "لا شيء" غير المحسوس وغير المرئي ولكنه الموجود أبدًا والفاعل دومًا. ** "In Praise of Nothing) تجربة فرجة أكثر من رائعة.