الصدفة هي التي جعلتني أذهب إلي قصر ثقافة الحرية في أواخر عام 1967. فقد كنت أمر أمام القصر. فأسمع صوت الغناء والموسيقي. فظننته صالة أفراح من التي يتزوج فيها شباب حيناً في صالات محطة الرمل. لكن صديقاً أخبرني إنه قصر ثقافة. وفيه يقرأ كتاب القصة والشعر قصصهم وأشعارهم. ويناقشها النقاد الكبار. حضرت أول ندوة. كان علي المنصة الدكتور علي نور أستاذ الأدب اليوناني ورئيس البرامج الثقافية في إذاعة الإسكندرية. ومحمد حافظ رجب ونبيل فرج وعبدالوهاب الأسواني وغيرهم. تحدث علي نور ليلتها عن كاتب اسمه عبدالعال الحمامصي. فأثني علي قصصه. وعرض علي مسئولة الثقافة هناك أن تستضيفه لمناقشة قصصه. وجاء عبدالعال الحمامصي. وناقشوا مجموعته القصصية "للكتاكيت أجنحة". وتحدث الحمامصي فكان واعياً وظاهر الثقافة. ثم ارتبطنا - نحن كتاب القصة بالإسكندرية - به. خاصة إنه أقام بالإسكندرية عدداً من السنين. أيام كان موظفاً في "شركة جمهورية فيلم". مع قريبه عدلي المولد المحامي صاحب الشركة ومؤلفها. كان الحمامصي مسئولاً عن تحصيل ما يخص الشركة من أموال في الأفلام التي تنتجها. فيطوف علي دور السينما التي تعرض الأفلام. ويأخذ منها نسبة المنتج. وحكي لنا حكايته مع المطربة نجاة. فقد أوصاه قريبه عدلي المولد. أن يذهب لمقابلتها في الفندق الذي تنزل فيه. ويدفع لها القسط الأخير عن دورها في فيلم "شاطيء المرح". وذهب إليها. فرحبت به في حجرتها. ودفع لها قيمة القسط الأخير. تصرف عبدالعال الحمامصي معنا وكأنه سكندري مثلنا. يقرأ قصصنا ورواياتنا فور نشرها. ويحدثنا عنها. وعندما تولي رئاسة تحرير سلسلة "إشراقات أدبية" التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. بدأ السلسلة بكتاب لزميلنا - السكندري - أحمد حميدة. وهو مجموعته القصصية "شوارع تنام من العاشرة". الذي جعلني أتذكر عبدالعال الحمامصي موت أختي - التي تكبرني بعامين تقريباً - في السابع والعشرين من شهر أكتوبر 2015. كانت أقرب مخلوق لي. أرتاح لوجودها بجانبي. وأشكو إليها مواجعي بلا خجل. اهتمام أختي بي وباقي أخوتي ذكرني بقصة عبدالعال الحمامصي "للكتاكيت أجنحة". كل ما كنت أذكره من القصة وقت موت أختي أن فتاة ضحت بكل شيء من أجل أخوتها. وهذا ما فعلته أختي معنا. سعاد بطلة قصة عبدالعال الحمامصي. نجحت في التوجيهية. وحصلت علي مجموع كبير يؤهلها للالتحاق بالجامعة بالمجان. لكنها فضلت أن تنتسب للكلية. وتعمل لتعين والدها علي المعيشة. قبل أن تتخرج سعاد في الجامعة. مات أبوها فجأة. ثم تبعته أمها. فوجدت نفسها مسئولة عن أخيها وأختيها. منحتهم كل وقتها. حتي مل خطيبها وتركها لأسرتها. واضطرت هي أن تترك الدراسة. يحكي عبدالعال الحمامصي في قصته عن وقت استعداد الأسرة لخطوبة الأخت الصغري. تأتي الخالة حميدة. تضم سعاد لصدرها. وتقول لها: عقبالك ياسعاد. خالتها هذه هي التي قالت لها منذ سنوات: أنت رجل البيت. كل شيء ضاع من أجل الولد والبنتين. البنت الكبيرة تخرجت في الجامعة وتزوجت. وها هي الصغري تخطب. والولد أنهي دراسته الجامعية. وفي القريب سيختار شريكة حياته ويترك البيت. وستظل هي في الشقة وحدها. مرت السنوات حتي كبرت في السن. وضاعت فرص الزواج. عندما ماتت أختي فجأة. تذكرت قصة الحمامصي رغم أن حكاية أختي معنا لا تتطابق تماماً مع ما حدث لسعاد - بطلة قصة الحمامصي - فأختي تزوجت وهي صغيرة كعادة الفتيات الصعايدة. لكن هناك أشياء كثيرة مشتركة مع بطلة قصة الحمامصي. فقد ماتت أمي فجأة في أوائل عام 1956. وكانت أختي في العاشرة. فاختضنتنا. وجاءت زوجة أبي من الصعيد. فأحاطت أختي بنا. وحتي بعد زواجها كانت مشغولة بنا. تأتي للسؤال عنا. وتهتم بشئوننا. وظلت هكذا إلي أن ماتت. بعد موتها. بحثت في مكتبتي عن قصة الحمامصي. وكنت قد نسيت تفاصيلها. كل ما أتذكره. أن الفتاة الصغيرة أحاطت باخوتها وحمتهم. كتكوتة صغيرة الحجم. تصرفت وكأنها دجاجة كبيرة ذات جناحين كبيرين. غطت بهما صغارها. أعدت قراءة القصة ثانية. شعرت بأن الحمامصي ظلم نفسه. وأضاع فنه. بالأعمال الإدارية العديدة التي شغلت وقته. وتذكرت ما قاله عنه الدكتور علي نور في أول ندوة أحضرها في قصر ثقافة الحرية. فقد تنبأ له بأن يكون كاتباً مهماً. وقال: إنه لا يقل موهبة ومقدرة عن يوسف إدريس. لكن هذا لم يحدث. لانشغال الحمامصي ببناء مستقبله. تبدأ قصة "للكتاكيت أجنحة" بسعاد التي تدخل غرفة النوم. وتخلع ملابس البيت. وترتدي فستان المناسبات الوحيد لديها. تقف أمام المرآة لتمشط شعرها استعداداً لاستقبال خطيب أختها وأسرته. فهي "رجل البيت" علي رأي خالتها حميدة. بحرفية شديدة ومهارة عالية. يخرج الكاتب من زمن الحدث ليحكي حكاية سعاد من أولها. ثم يعود ثانية إلي يوم الخطبة. ونظل بين أزمان عديدة. حتي تعود سعاد إلي حجرة نومها بجوار أختها التي خطبت اليوم. ووجدت سعاد نفسها تبحث عن يد أختها النائمة إلي جوارها. ثم تتحسس الدبلة في إصبعها. وقد أشرقت من ظلام خواطرها رؤيا أشعة تثلج قلبها. ثم انسابت وانتشرت تضيء كل أحاسيسها. فتركت يد أختها. وأسدلت الغطاء علي وجهها. وأغمضت عينيها علي منظر خالتها حميدة. تندفع إلي "الصالة" بعاصفتها. وهي تطلق الزغاريد في أرجاء البيت. قسوة الحياة أضاعت مواهب كثيرة. فقد عمل عبدالعال الحمامصي في أعمال بعيدة عن فن الكتابة. فبدلاً من أن يعطي جل وقته لفنه. فن الكتابة. انشغل بانتخابات نادي القصة واتحاد الكتاب وجمعية الأدباء. كل همه أن يكون عضواً بمجلس إدارة كل هذه التجمعات. وهو ما استلزم أن يسافر إلي الأقاليم. لضمان أصوات الانتخابات في كل هذه التجمعات والهيئات. فكانت قصصه محدودة. وحلم طويلاً بأن يكتب رواية بعنوان "إخميم حبي". لكن مشاغله هذه لم تمكنه من ذلك. موت أختي المفاجيء جعلني أتذكر عبدالعال الحمامصي. لأنه كتب عن فتاة فعلت أفعالاً قريبة مما فعلته أختي معنا. وجودة قصته "للكتاكيت أجنحة". جعلتني أتذكره. وأتذكر معه الكثيرين ممن أضاعوا وقتهم بحثاً عن دور. مضحين بمواهبهم النادرة. فلن يتبقي للأديب سوي ما كتبه. والباقي زائل. وسينساه الناس علي مر السنين.