وجد عبدالرحمن الكواكبي في الاستبداد عاملاً رئيسياً في التخلف الحضاري الذي يعانيه الآن وطننا العربي. وقد صدر له في ذلك كتابان. أولهما "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" يدين قضية استبداد الحكام. والثاني "أم القري" يعيب فيه علي الشعوب رضوخها للاستبداد والظلم. يقول الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" إنه "ما مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية. يشارك بها الله. أو تعطيه مقاماً ذا علاقة بالله". ولاشك أن الأسباب الدينية تسبق ما عداها من الأسباب التي تمثل منزلقاً للأمة الإسلامية نحو الجمود والتخلف. وما يختلط بها من غياب الحرية والديمقراطية والرأي المخالف.. هذا هو السبب الذي أجمع علي خطورته الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم. لكن تظل الأسباب الدينية تكوينات في المشهد الذي يحفل بتكوينات أخري. الكواكبي يعود بمأساة الملكية الفردية. وما اعتورها من استبداد. إلي زمن الأمويين. لقد استولوا علي الحكم. وحافظوا عليه لعدة قرون بوسائل شنيعة. حتي آل البيت لم يسلموا من القتل والنفي والتشريد. تواصلت في العصور التالية فكرة الاستبداد السياسي. مقترنة بالقهر والسيطرة والاستلاب والسطو علي ما بأيدي الناس. مع أن مجال العمل الذي يعود علي أمته بالخير كما يقول الكواكبي أوسع من أن تكفي حياته. وحياة سلسلة من أحفاده في القيام به". أرجع الكواكبي خطورة الاستبداد إلي أربعة أسباب. هي: تنافس الساعين إلي الحكم. واتخاذهم الترف أسلوب حياة. جهل الملوك وغرورهم. خيانة الملوك. دور رجال الظل. أو الحاشية. في صناعة الاستبداد. أما الحكام. فقد قسمهم الكواكبي إلي قسمين: حاكم يدين له شعبه بالتعاطف والحب والطاعة والولاء. وحاكم أميل إلي الاستبداد والخيانة. أما الحاكم الأول فإنه قد يخضع لمؤثرات خارجية وداخلية. وأما الحاكم الثاني فإن الاستيلاء علي بلده في تقدير الكواكبي لأكثر يسراً. إذ ليس للغاصب أن يجند الجيوش الضخمة. أويحشد الأساطيل. وفيم هذا العناء كله إذ كانت نتيجة الغزو محققة قبل البدء؟! والحق أن اليأس المسبق في تصرفات النوع الثاني من الحكام. يذكرنا بالخونة الذين رضخ طومانباي لنصيحتهم بالتنازل لقاء الحفاظ علي حياته. وعلي البلاد من التقتيل والعبث والتدمير. ثم دفع الثمن بتعليق جسده علي باب زويلة. ودفعت مصر بالتالي قروناً من الحكم العثماني حافلة بالظلم والمصادرات. ونتذكر في المقابل رفض عبدالناصر نصيحة زميل في مجلس قيادة الثورة بقبول الاعتقال وتسليم الأسلحة الشخصية. لتظفر مصر بحريتها واستقلالها. أدرك عبدالناصر أن قبوله بالنصيحة يكرر مأساة عرابي. لما وافق وقيادات الجيش علي تسليم أسلحتهم الشخصية. والقبول بالاعتقال والسجن والنفي. وخضعت البلاد للاحتلال البريطاني أكثر من سبعين عاماً. قبل أن تجبرهم إرادة المصريين علي الرحيل. ولعلي أجد في "أم القري" أول كتب الكواكبي إرهاصة بالسرد الفني إلي جانب رواية "علم الدين" لعلي مبارك وما تبعها من إبداعات سردية بلغت أكثر من 130 عملاً. قبل أن يتعرف النقاد والدارسون إلي البداية الفنية الحقيقية الأولي: هل هي "زينب" محمد حسين هيكل. أو "عذراء دنشواي" لمحمود طار حقي. أو غيرهما من الروايات التي سبقت في الصدور؟ وهل "في القطار" لمحمد تيمور هي القصة الفنية الأولي. أو أنها تخلي السبيل في هذه المكانة لقصص أخري غيرها؟ جمعية أم القري هي مؤتمر متخيل في مكةالمكرمة. حضره مندوبون من أمم العالم الإسلامي. تناوبوا إلقاء الكلمات التي تشرح أحوال المسلمين من واقع أحوال البلد الذي ينتمي إليه. ويجب المؤتمرون عن أسئلة مثل: لماذا يضعف المسلمون. لماذا أهملوا آداب الدين؟ لماذا جهلوا قواعد الدين؟ يلخص العقاد الإصلاح الديني عند الكواكبي في تحرير الإسلام من الجمود والخرافة. أخطر آفات الجمود هي أن المسلمين صورة مقلدة. ونسخة مستعارة. فهم مسلمون لذمة أسلافهم. وليسوا بالمسلمين لذمة أنفسهم. وهم مسلمون بالتبعية وليسوا مسلمين بالأصالة. يدينون بالإسلام انقياداً منهم لمن تقدمهم. ولا يحسبون أنهم أهل للخطاب علي حدتهم. وعلاج هذه الآفة عند الكواكبي أن يعاد بالدين إلي بساطته الأولي التي يسرت فهمه لمن تقبلوا دعوته في صدر الإسلام. ولا تزال تيسره لمن يدعون إليه علي بساطته وسهولته بين أبناء الشعوب الفطرية. لذلك فإن الطائفة المثلي من علماء الدين والكلام للعقاد هم طائفة الرواد السابقين الذين أفلتوا من إرهاق الجمود. وتمردوا علي أوهام الخرافة. واطلعوا علي حظ حسن من العلم الحديث. فوضح لهم أنه يرتهن به التقدم. وتستمد منه القوة التي يصول بها الأوروبيون علي بلادهم. وأنه هو العلم الذي يدعوهم إليه كتابهم. ويحضهم عليه في كل آية من آيات الأمر بالتفكير والتدبر والنظر في ملكوت السماء والأرض. والعمل الصالح في سبيل الدين والدنيا. وكانت ملاحظة الكواكبي علي هؤلاء أنهم ينقسمون إلي فريقين: أحدهما يري أن العلم الحديث مطلب مباح. بل فريضة واجبة "ونتذكر كتاب العقاد "التفكير فريضة إسلامية" توافق الدين ولا تناقضه في جملتها ولا في تفصيلاتها. بينما يذهب الفريق الآخر وراء الاعتقاد في العلوم الحديثة. من خلال تبين مكانها في القرآن الكريم. وردها إلي آيات تحتويها. وتتقبل التفسير بمعانيها. وكما يقول الكواكبي فإنه لو اطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات. لرأوا في آيات القرآن آيات من الإعجاز. ورأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان. يري الكواكبي أن المتشددين من علماء الدين مسئولون كالحكام المستبدين عن شيوع التصوف الفاسد بين العامة وأشباه العامة من المسلمين والمتأخرين. لأنهم جعلوا الدين حلاجاً ثقيلاً علي النفوس. فمهدوا الطريق لمن يبيحون المحظورات باسم العلم الباطن والمعرفة الخفية التي ترفع التكليف عن الواصلين إلي الهداية من غير طريق الشريعة الظاهرة. ولولا العنت المرهق من أولئك المتشددين لما راجت سوق التصوف المكذوب. وأزعم شخصياً أن انشغالي في دراسة الصوفية بحثاً عن المنابع التي نهل منها عشرات الفرق في حي بحري بالاسكندرية أفكارهم وطقوسهم. قد صدمني بما يصعب تقبله من الكرامات والمكاشفات المنسوبة إلي أولياء الله الذين تحفل بهم الحياة الروحية في الحي. وظني أنها تأليفات وتوليفات من رواة وحكائين أرادوا استلاب ما في جيوب البسطاء. فنسبوا إلي أولياء الله. ما سينكرونه لو أنهم علي قيد الحياة. من هنا. فإن أي إصلاح ديني في تقدير الكواكبي يتلخص في تصحيح الإيمان. واعتبار الشعائر والفرائض آية علي صحة الإيمان. تدل علي سلامته بمقدار سلامتها من تشبيهات الوثنية وعوارض الشرك والزيغ عن الوحدانية. ولا بقاء للظلم والفساد مع هذا الإيمان. لكنهما قد يبقيان. ويطول بقاؤهما. مع قيام الشعائر التي فارقتها روح الدين. ولم يتخلف منها غير الرسوم والأشكال. وعلي حد تعبير الكواكبي فإن كلمة الشهادة والصوم والصلاة والحج والزكاة كلها لا تغني شيئاً مع فقد الإيمان. إنما يكون القيام حينئذ بهذه الشعائر. قياماً بعادات وتقليدات وهوسات تضيع بها الأموال والأوقات. والتوفيق بين الإسلام والعلم الحديث بعد مهم في دعوة الكواكبي إلي الإصلاح والتطوير. فالإصلاح الديني غير منفصل عن إصلاح المجتمع كله في شئونه الدنيوية. وكان موقفه إزاء العلوم الحديثة أصح وأصدق من المعارضين لتلك العلوم ل "رجال" الدين الجامدين في أمم العصر الحديث. والأمة الإسلامية بخاصة. عارضوا كل جديد. واتهموه بالبطلان. وإنه يناقض الكتب المقدسة والوصايا المأثورة. وهو ومن وقف كموقفه يرد التهمة علي أصحابها. وينعي عليهم أنهم يعارضون العلم والقرآن معاً. لأن العلم والكتاب يتفقان. وما كشفه العلم الحديث يجدد ذلك المعني. لعلي في نهاية هذه الكلمات استعير من العقاد قوله عن دعوة الكواكبي للإصلاح الديني: إن أساسها القويم يصلح للبناء عليه: عقيدة خالصة من شوائب الجهل والسفسطة. تؤمن بدينها ودنياها علي بصيرة.