أفعل التفضيل من أنصع الأدلة أو هي أنصعها علي الإطلاق علي التطرف العربي.. فنحن العرب نكثر ونسرف في استخدام أفعل التفضيل.. الأعظم والأخطر والأكبر والأجمل والأقوي والأهم وغير ذلك من افعل التفضيل.. والإنسان العربي المتطرف والمتعصب يري الشيء بما يريده هو لا بما الشيء عليه فعلاً.. لذلك لا نتفق أبداً.. لأن الهوي حاكم بأمره عند كل شخص وعند كل فريق عربي.. والهوي رب معبود من دون الله "أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله علي علم". وافعل التفضيل دائماً حكم هوي وليست حكم عقل.. فلا توجد في الواقع جميلة إلا ولابد أن يكون هناك أجمل منها.. ولا يوجد عظيم إلا وهناك أعظم منه.. ومشكلة أفعل التفضيل ابنة الهوي أنها تجعلنا دوماً علي طرفي نقيض.. وتجعلنا متسرعين ونصدر أحكاماً قاطعة جامعة مانعة علي أمور نسبية.. والدنيا أساساً مخلوقة من النسبية وليس فيها أمر بات ومطلق وقاطع.. والإسراف في استخدام أفعل التفضيل يخالف ناموس الدنيا..فالمطلق لا وجود له في الدنيا.. وهو موجود في الآخرة فقط.. فريق في الجنة وفريق في السعير..منهم شقي وسعيد. أما في الدنيا فلا توجد سعادة.. ولكن يوجد ما يمكن أن نطلق عليه سروراً مؤقتاً.. لذلك يكذب من يقول "أنا أسعد إنسان في العالم بحبيبتي".. ويكذب من يقول "أنت يا حبيبتي أجمل نساء العالم".. فليس في الدنيا جمال مطلق أو سعادة مطلقة أو شقاء مطلق.. أو رأي قاطع أو قول فصل أو حق مطلق أو حقيقة لا تقبل الشك.. ليس في الدنيا جملة يحسن السكوت عليها كما يقول علماء اللغة في تعريف الجملة المفيدة.. كل شيء قابل للنقاش والتفاوض..وكل شيء وكل قول يؤخذ منه ويرد عليه إلا كلام الله سبحانه وتعالي وكلام رسوله صلي الله عليه وسلم.. حتي حكم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لا تؤخذ علي عواهنها وهي أيضاً قابلة للنقاش.. فعندما يقول أحد الصحابة رأياً في المرأة مثلاً أو يقول أحد التابعين رأياً في أمر ما..فإن ذلك كله قابل للنقاش. وأفعل التفضيل هي المسئولة عن أننا فرقنا ديننا وأصبحنا شيعاً وصرنا فرقاً كلها هالكة إلا الفرقة التي ليست فرقة وهي أنا وأنت وهي وهو من عامة الناس.. الذين نجوا من الانتماء إلي تيار أو جماعة أو فرقة أو حزب أو منظمة.. فكل حزب من هؤلاء بما لديهم فرحون. وافعل التفضيل هي المسئولة عن رذيلة احتكار الحقيقة.. كل فريق يدعي أنه علي الحق وحده وأن غيره علي الباطل.. ولا يوجد في الدنيا أحد يمتلك الحقيقة كلها..فالحقيقة لو افترضنا أنها ذرات أو قطع قابلة للتقسيم فسوف يكون لكل منا نصيب فيها.. أنا عندي قطعتان أو ذرتان من الحقيقة وأنت عندك خمس قطع والآخر عنده عشر قطع وهكذا.. ويحدث الخلاف عندما تأخذني أنا العزة بالإثم وأري القطعتين اللتين معي هما كل الحقيقة..وتري أنت ويري الآخر أن الحقيقة كلها عند كل منكما.. ولو اجتمعنا وجمعنا ذرات الحقيقة التي مع كل منا فسوف نصل إلي الحق كله.. لكن المشكلة هي العزة بالإثم والعزة بالجهل والعزة بالعناد. والعزة بالإثم وبالجهل هي نتاج طبيعي لأفعل التفضيل.. أنا أعظم منك وأنا أدري منك وأنا أقوي منك حجة وأنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً.. وأنا أكثر منك معرفة بالدين وأنا أكثر منك وطنية وحباً للوطن.. لذلك يرمي مستخدمو أفعل التفضيل بإسراف غيرهم بالجهل والغفلة والخيانة والعمالة. وأدي هذا الصراع الناجم عن أفعل التفضيل إلي ما اسميه القبلية الفكرية والدينية عند العرب.. وهي القبلية التي حلت محل القبلية العرقية..فبدلاً من بني فلان وبني فلان وآل عمرو وآل زيد..صارت هناك قبيلة السنة وقبيلة الشيعة وقبيلة داعش وقبيلة الإخوان وقبيلة القاعدة وقبيلة النصرة وقبيلة الناصريين وقبيلة السلفيين وقبيلة الاشتراكيين الثوريين.. وكل هذه القبائل متناحرة ومتنافرة ولا تلتقي عند نقطة واحدة سوي نقطة الكراهية للوطن أو للنظام الحاكم الذي ليس منها..وتتعاون بشعار عدو عدوي صديقي.. لذلك يلتقي السلفيون والإخوان والناصريون والاشتراكيون الثوريون الملحدون الذين يكرهون بعضهم جميعاً علي كراهية النظام الحالي الحاكم.. بشعار عدو عدوي صديقي.. وصديق عدوي عدوي. وإذا اعتلي أحد هذه التيارات سدة الحكم..تعاونت التيارات الأخري المتناقضة ضده.. لأن كل تيار يري بمنطق أفعل التفضيل أنه الأصلح وحده للحكم.. وعندما حكم عبدالناصر كان الإخوان والسلفيون والشيوعيون ضده تماماً وتعاونوا وتآمروا علي الإطاحة بنظامه..وعندما حكم الإخوان تحالف السلفيون والناصريون والاشتراكيون الثوريون ضدهم.. وإذا حكم الشيوعيون والملاحدة الثوريون.. أصبحوا عدوا لكل التيارات.. والمنطق دائماً: أنا الأصلح وأنا الأفضل للحكم.. والتيار أو الفصيل الذي يحكم يتحول فجأة من حليف إلي عدو..فشهوة السلطة والحكم هي التي تدير الجميع في هذا العالم العربي التعيس.. فلا خيار سوي أن نحكم أو"نولعها".. نحكم أو نتآمر ضد من يحكم لإسقاطه..ولا أحد أبداً يقول إنه ينصح للحاكم وولي الأمر أو الرئيس أو المدير.. كل من اعتلي مقدمة السلطة في رأينا حرامي وفاشل ولص وجاهل وغبي.. ولا دليل سوي أنني أنا الأصلح والأفضل والأقدر والأقوي والأولي بالرئاسة أو الإدارة..ولله در السياسي البريطاني الذي لا أتذكر اسمه حين قال: ليست هناك معارضة تفوز في الانتخابات ولكن هناك حكومة تخسر الانتخابات.. وهذه نتائج افعل التفضيل في الأمة العربية التعيسة وهي التي تجعل كل التيارات تهتف: "فيها أو اخفيها"!!