للحقيقة وللتاريخ.. ليس وزير الصحة وحده الذي يقدح في "مجانية عبدالناصر" ويحملها مسئولية الفشل الذي وصل إليه حال الصحة والتعليم في مصر.. وزير التعليم فعلها قبله.. مؤكداً أن المجانية هي التي أفسدت منظومة التعليم.. وأنه من غير المعقول أن يستمر التعليم مجاناً.. وكذلك وزير التموين الذي كان أول شيء يفكر فيه بعد أن جلس علي كرسي الوزارة ضرب منظومة الخبز التي كانت قد استقرت علي حال يحقق شيئاً من الرضا العام.. وكأنه استكثر أن يحصل الناس علي خبزهم بسهولة ويسر.. فكان لتدخله أسوأ الأثر في تجديد أزمة رغيف الخبز. أصوات كثيرة في الحكومة تقدح في "المجانية" و"الدعم".. يقولونها صراحة: "ليس هناك شيء بلا مقابل".. وكأنهم يدفعون لهذه المجانية ولهذا الدعم من جيوبهم.. أو من ثرواتهم.. وليس من خزينة الدولة التي هي ملك للشعب وله فيها حق معلوم.. وتمولها الضرائب التي يدفعها الشعب الغلبان.. بينما يتهرب الأثرياء والوجهاء وأصحاب النفوذ علناً من هذه الضرائب. وبصرف النظر عن حق الشعب الثابت في هذه "المجانية" إلا أننا نسأل: هل هناك مجانية حقيقية في أي شيء علي أرض الواقع في مصر؟! نرجو أن تدلونا علي هذا التعليم المجاني أين يوجد.. والعلاج المجاني أين يوجد.. وماذا بقي من الدعم؟! فيما يتعلق بالتعليم صارت مدارسنا الحكومية لا تقدم أي قدر من الخدمات التعليمية.. ولا تصلح أصلاً للعملية التعليمية.. وكذلك الجامعات الحكومية.. لم يعد لها ميزانيات كافية وليس فيها بنية أساسية.. ولا نظام تعليمي محكم كالذي كان أيام مجانية عبدالناصر.. حين كنا نتعلم مجاناً فعلاً.. مصاريف المدرسة أو الجامعة مجرد قروش معدودة.. والتلميذ يتسلم كافة مستلزمات الدراسة ووجبة غذائية غير مسممة.. وبالتالي كان هناك تكافؤ حقيقي في الفرص.. يتساوي فيها ابن الوزير مع ابن الخفير.. والعبرة بالاجتهاد والنبوغ الشخصي. اليوم مصاريف المدارس مرهقة.. سواء أكانت مدارس حكومية أو تجريبية أو خاصة.. والجامعات ذلك.. وكلها لا تعلم شيئاً.. ويصبح علي ولي الأمر إما أن يبحث لابنه عن نظام تعليمي مواز مدفوع أيضاً عن طريق الدروس الخصوصية.. أو بترك ابنه للمجهول فيخرج من المدرسة أو الجامعة حاملاً شهادة دون أن يحصل قدراً معقولاً من التعليم يؤهله لعمل لائق. وفيما يتعلق بالرعاية الصحية لم يعد هناك شيء مجاني فعلاً ولا حتي في المستشفيات الحكومية التي لا يدخلها إلا المضطرون.. فلا يجدون شيئاً فيها يصلح للعلاج.. ويكون عليهم أن يشتروا علاجهم من خارج المستشفي علي نفقتهم الخاصة. أما التأمين الصحي فليس لأحد أن يدعي أنه مجاني.. هو نظام تكافلي يقوم علي الاشتراكات التي يدفعها المنتفعون.. والتأمين الصحي عندنا ليس له مثيل في العالم من حيث قصوره وتخلفه.. والدولة بالمناسبة لا تدفع له مليماً من ميزانيتها وخزانتها.. وتقوم بوضع ميزانيته "المستقلة" ضمن ميزانية وزارة الصحة للإيهام بأن مخصصات الوزارة للإنفاق علي الصحة ضخمة ومتزايدة. والحقيقة التي كشفتها مؤخراً مداولات لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب أن الحكومة لم تلتزم في ميزانية العام الماضي بتخصيص 10% من إجمالي الناتج القومي للإنفاق علي الصحة والتعليم والبحث العلمي رغم أن هناك أربع مواد دستورية تلزم الحكومة بذلك إلزاماً.. لكن حكومتنا المباركة ضربت بالدستور عرض الحائط دون أدني مساءلة في البرلمان.. ثم بعد ذلك تعايرنا بالمجانية والدعم.. وتتهم عبدالناصر بأنه سبب فشلها رغم أن الرجل مات منذ 47 عاماً. بالتأكيد عبدالناصر ليس ملاكاً.. وله سلبياته التي يمكن بل يجب أن نعيها جيداً حتي نتجنبها ولا نكررها.. لكن القدح في مجانية عبدالناصر في الصحة والتعليم يعبر عن عدم إدراك بالتاريخ وبالواقع.. لأن عبدالناصر دخل التاريخ ودخل قلوب الناس بهذه المجانية التي كانت صادقة وحقيقية.. وخرجت أجيالاً من العلماء والعظماء في كل المجالات.. كانت المجانية حلماً كبيراً للمصريين وجاء عبدالناصر ليحققه. والفشل الحالي في منظومة التعليم ومنظومة الصحة لا يُنسب لعبدالناصر.. وإنما يُنسب لمن أفسدوا المجانية وشوهوها.. ولم يقدموا بديلاً جيداً لها.. ومازال إعداد قانون جديد للتأمين الصحي مجرد قانون يتخبط بين الوزارات والهيئات منذ عام.. أما تطبيق القانون فسوف يستغرق كما قالوا 13 عاماً قادمة.