"أنقذ وطننا وارفع أمره. لقد أرشدك الإله إلي إنقاذه فيما مضي. فكن اليوم كما كنت بالأمس. فقد أري أنه إذا أتيح لك أن تحكم هذه الأرض فالخير في أن تحكمها معمورة لا مقفرة". هذا ما قاله الكاهن المخلص للملك أوديب عندما حاصر الطاعون البلاد في مسرحية "أوديب ملكاً" التي كتبها في القرن الرابع قبل الميلاد.. سوفوكليس اعظم كتاب الدراما الذين عرفهم التاريخ. كلام منطقي يقوله شخص يحب وطنه ويخلص لحاكمه ويرجو الخير له. ولكن كيف تكون الأرض معمورة لا مقفرة؟ تكون كذلك بتحقيق العدل. بفتح النوافذ لكل صاحب رأي مهما اختلفنا معه أو حوله. بالحرية والديمقراطية. بالاعتماد علي أهل الخبرة لا أهل الثقة. بالقضاء علي الفساد والفاسدين والمفسدين. خاصة إذا كانوا معروفين بالاسم. القضاء عليهم جميعا وليس بطريقة انتقائية تثير الأسي والرعب أكثر مما تثير الفرح والاطمئنان. البلاد المقفرة هي التي تغلق فيها النوافذ وتصادر الآراء. هي التي يحتل فيها عديمو الموهبة وفقراء الخيال المواقع القيادية. ويحذف من خانة الوطنية كل من يقول رأياً مخالفاً ويتم التضييق عليه في عمله ورزقه. البلاد المقفرة هي التي لا يجد فيها السواد الأعظم من الشعب قوت يومه. بينما تنعم قلة فاسدة ومفسدة بالخير كله. هي التي يتواطأ مسئولوها مع التجار وأصحاب رءوس الأموال ويتركون لهم الحبل علي الغارب ليمتصوا دماء الشعب. البلاد المقفرة هي التي تعزف وسائل إعلامها نغمة واحدة. ومن يشذ عن القاعدة ينكل به. هي التي يكذب مسئولوها ويعرفون أن الشعب يعرف أنهم يكذبون. ومع ذلك يواصلون الكذب. البلاد المقفرة هي التي يتحول رجال الدين الرسميون فيها إلي أراجوزات يزينون للحكام كل ما يفعلونه باسم الدين. هي التي يصبح إعلاميوها راقصي استربتيز. وتكتفي برلماناتها بكونها فرقا للطبل والزمر في خدمة السلطة. البلاد المقفرة هي التي إذا مرض الفقير فيها يموت لأنه لايجد ثمن علاجه ولا يجد من يحنو عليه. هي التي لا يستمع مسئولوها إلي أنين شعوبهم ويعملون بقدر ما يسعهم جهدهم. علي إفقارهم تنفيذاً لنصيحة أفاقين ورعاع يقولون "إن الشعب إذا جاع أطاع". البلاد المقفرة هي التي ترفع من شأن الفاشلين والمخنثين والكذابين والمخبرين وتجعل منهم نجوماً. بينما تزيح الرجال الموهوبين والمبدعين والوطنيين وتعمد إلي إيذائهم والتضييق عليهم. البلاد المقفرة هي التي لا يقرأ حكامها التاريخ ولا يتعظون من حوادثه. ويظنون أن المقدمات الواحدة يمكن أن تؤدي الي نتيجتين مختلفتين. البلاد المقفرة هي التي ينتشر فيها الفقر والجهل والمرض والخرافة ويتولي مسئولية تعليم أبنائها مخبرون وجهلاء ومرضي نفسيون. البلاد المقفرة هي خسارة مؤقتة لشعوبها لأن الشعوب لا تموت. لكنها خسارة أبدية لحكامها. فالتاريخ يقول لنا إنهم جميعا زائلون. لكن تبقي السيرة التي تحددها اختياراتهم.. فإما يعملوا علي أن تكون بلادهم معمورة فتظل عطرة. وإما يعملوا علي أن تكون مقفرة فتظل والعياذ بالله.. الحياة اختيار!!