رغم أنه كان في كامل يقظته إلا أنه كان يحلم بالتأكيد.. ذلك هو محمود عيسي وزير الصناعة والتجارة الخارجية الذي التقي الأسبوع الماضي مع السفيرة الأمريكيةالجديدة في القاهرة آن باترسون لوضع خارطة طريق لتحديد حزم المساعدات التي يمكن أن تقدمها الولاياتالمتحدة لمصر خلال المرحلة المقبلة.. ثم خرج من اللقاء ليؤكد أنه "طالب بعدم ربط المساعدات الأمريكية بأية مطالب غير اقتصادية". وفي تفصيل ذلك قال الوزير انه أكد خلال اللقاء علي ضرورة ربط هذه المساعدات بالشأن الاقتصادي والفني فقط دون ربطها بأي مطالب غير اقتصادية.. وأن يتم التركيز علي البرامج الداعمة ذات التأثير الايجابي السريع لجميع القطاعات الاقتصادية. وما طالب به الوزير يستحق التحية والتقدير بلاشك.. لأنه يعبر عن نية صادقة وشعور وطني نبيل.. لكن المشكلة أن السيد الوزير حين يطرح هذا الطلب لعدم ربط المساعدات الأمريكية بأية مطالب غير اقتصادية يتحدث بعيداً عن حقائق الزمان والثوابت التي يفرضها التوازن في العلاقة مع أمريكا.. وهي ثوابت يدركها جيداً كل من له أدني معرفة بالشأن العام. إن المساعدات التي تقدم إلينا من الولاياتالمتحدة أو من الاتحاد الأوروبي لا تأتي من أجل سواد عيوننا.. لكنها مشروطة بأجندات وإملاءات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية.. ومن يقل بغير ذلك يضلل الناس ولا يعترف بالحقيقة كما كان يفعل نظام مبارك الساقط. ونحن اليوم لانريد أن نحلم.. ولا أن نضلل الناس ونضحك عليهم.. نريد أن نقول الحقيقة مهما كانت مرة.. ونشرك الشعب كله في المسئولية الوطنية.. فنقول له إن كنت تريد أن تكون مصر مثل تركيا وتطرد السفير الإسرائيلي فالمسألة ليست كلاماً وهتافات وشعارات وإنما لابد أن تكون مصر قوية اقتصادياً وقادرة سياسياً.. وليست في حاجة الي معونات ومساعدات من أمريكا أو غيرها. وتقول للناس كما قال الشيخ الشعراوي رحمه الله : إذا أردتم أن يكون قراركم من رأسكم فلابد أن يكون طعامكم من ضرب فأسكم.. لابد أن تعملوا وتنتجوا وتصنعوا وتزرعوا وتصدروا وتعمروا الصحاري إذا أردتم أن يكون استقلالكم كاملاً.. وأن تحترمكم الدول الأخري وتسمع الشعوب كلمتكم. أما إذا رضيتم بالكسل والضياع.. ورضيتم أن يمد الوزراء والرؤساء أياديهم إلي أوروبا وأمريكا.. وانتظرتم المعونة.. فلا تتحدثوا عن الكرامة واستقلال الإرادة.. وارضوا بما أنتم فيه.. ولاتنظروا الي تركيا التي أرسلت قطعها البحرية إلي الشواطيء الجنوبية للبحر المتوسط لإعلان التحدي في مواجهة إسرائيل.. ولا إلي إيران التي أرسلت غواصتها الي البحر الأحمر لإظهار قوتها أمام الصلف الإسرائيلي المتزايد. وإذا كان وزير الصناعة الطيب قد نشر تصريحاته بالصحف يوم الثلاثاء الماضي فإنني أرجوه أن يقرأ ما نشرته "المصري اليوم" أمس نقلا عن تقرير لوحدة أبحاث الكونجرس الأمريكي يؤكد بكل جدية أن المعونة مشروطة مشروطة.. ولكي تستمر لابد من شهادة "حسن سير وسلوك" عن مصر تقدمها وزارة الخارجية الأمريكية. وطبقا لهذا التقرير فإن المساعدات الاقتصادية الأمريكية لن تستمر حتي تقدم وزيرة الخارجية الأمريكية شهادة تؤكد فيها أن مصر لا تحكمها منظمة إرهابية.. أو موالية أو داعمة للإرهاب لاحظ الخلط الدائم بين المقاومة والإرهاب وأن مصر تفي بالتزاماتها تجاه معاهدة السلام.. وتأخذ خطوات لتدمير الأنفاق الحدودية مع قطاع غزة.. وألا تستخدم المساعدات في تقليل أو إعادة جدولة أو إعفاء مصر من ديونها للحكومة الأمريكية. ويقول التقرير بكل صراحة إن المساعدات المقدمة لمصر بمثابة استثمار من أجل الاستقرار الإقليمي أي ضمان الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية علي المنطقة وتعتمد علي تعاون عسكري طويل المدي بين البلدين ودعم استقرار معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. ولو دققنا قليلا في المقابل الذي قدمته مصر لهذه المساعدات فسوف نجد أنه باهظ جدا.. ويتمثل الجزء الظاهر منه في التعاون الأمني مع أمريكا وبالتالي مع إسرائيل.. والتزام الصمت إزاء جرائم إسرائيل في لبنان وغزة وتونس والعراق وجنوب السودان.. وترويج الاستراتيجيات الأمريكية الصهيونية في المنطقة.. ناهيك عن الكويز والجدار العازل مع غزة وتصدير الغاز لإسرائيل بأقل من الأسعار العالمية والصمت علي قتل جنودنا وضباطنا علي الحدود.. ومنعنا من تعمير سيناء وزراعة القمح.. والترويج للقيم المستحدثة في مؤتمرات السكان التي تخالف قيمنا وتقاليدنا. ويقينا.. لن تستجيب الإدارة الأمريكية لمطلب السيد وزير الصناعة.. وستنظر إليه باستخفاف.. علي اعتبار أنه مجرد حلم بعيد المنال.. فمصر لو أرادت أن تحول هذا الحلم الي حقيقة لكان لهذا حديث آخر.. وسلوك آخر.