لن تجد عنواناً أو إشارة لفيلم مصري تسجيلي طويل أو حتي قصير ضمن أفضل الأفلام التسجيلية في أي قائمة من تلك التي تُعلن عنها المؤسسات أو المطبوعات السينمائية عن "الأفضل" في أي سنة أو ضمن أي عدد حتي لو كان أفضل مائة أو خمسمائة.. وأنا أعني القوائم التي حققت صدي لافتاً خارج الحدود المحلية. السينما كاختراع علمي بدأت بالتسجيلي.. بشرائط واقعية تسجل خروج العمال من المصنع. وصول القطار إلي المحطة الخ الخ.. وعندما حقق اختراع الصور المتحركة نجاحاً مدهشاً واكتشف الرواد الأوائل سحر تأثيرها وامكانياتها غير المحدودة في تثبيت لحظات من التاريخ ومشاهد من أحداثه الكبري. ومدنه الفريدة الكبيرة. وتنوع أجناس من يسكنون الكوكب برزت أسماء في تاريخ السينما ودخل بفضل أعمالها التسجيلية تاريخ "الأفضل" و"الأهم" من الأعمال التسجيلية مثل الأمريكي روبرت فلاهرني "1884 1951" والروسي دزجا فرتوف "1896 1954" والفرنسي كلود لانزمان 1925 الذي قدم للتاريخ عملاً تسجيلياً في تسع ساعات عن معسكرات الاعتقال وغُرف الغاز النازية التي أبادت اليهود في فيلم يحمل عنوان "شوها" " shoha) "1995" والكلمة عبرية ومعناها "الكارثة" باعتبار ما جري أبشع كوارث القرن العشرين. الفيلم يضم جميع ما تم تصويره وتسجيله ثم اعادة بنائه حول هذا الموضوع. الفيلم التسجيلي يعتبر أضمن أكثر اشكال الثقافة تأثيراً وأكثرها قيمة وأكثرها معاناة من الإهمال.. وتأثيره الأقوي ينتج من أن المتفرج يستقبله كأمر مسلم به أو أنه شهادة موثقة عن الواقع وأن هدفه ليس التسلية وإنما التوعية والفهم وادراك ما لم ندركه في حينه. ونجاحه يتوقف علي مدي اقتناعنا بما يتضمنه. وخطورته أنه بينما يتناول الواقع. فإنه يمكن أن يزيفه أيضاً ويكيف مادته حسب ما يريد إيصاله صانع العمل. فالأحداث الكبري قد تقدم باستخدام نفس المادة التسجيلية الموثقة ولكن من وجهات نظر متباينة معادية أو مؤيدة حسب الغرض من إنتاجه وعلي سبيل المثال "حرب أكتوبر" قدمها الإسرائيليون وحاولوا قلب موازين نتائجها.. وكثير من الموضوعات الوثائقية يتم تناولها من زوايا نظر متعددة تدعم اتجاهات بعينها عند تناولها للتاريخ والسياسة وللشعوب والبيئات الإنسانية المختلفة. ومن ضمن الأفلام التسجيلية الأفضل في الاستفتاءات السينمائية الحديثة.. فيلم تسجيلي عن عشق السينما للمخرج الإيراني محسن مخملياف "1957 ....." بعنوان "سلام سينما" 1995 الذي يصور هوس الناس والمرأة الإيرانية علي وجه الخصوص بفكرة الاشتغال بالتمثيل السينمائي "!" وفيلم بنفس المضمون تقريباً ومعالجة مختلفة لمخرج إيراني آخر هو عباس كياروستامي "1940 2016" بعنوان "كلوزاب" ومعناه "لقطة قريبة" عن تأثير المخرج وعشق الناس له. ومن الأفلام التسجيلية التي حققت صدي واسعاً في المحافل الدولية عمل آخر لمخرج إيراني ثالث هو جعفر باناهي "1960 ....." بعنوان "تاكسي" "Taxi) انتاج ..2015 ولعل أشهر الأفلام التسجيلية التي أحدثت ضجة كبيرة ووضعت هذا النوع من السينما علي خريطة أشهر وأقوي المهرجانات السينمائية فيلم "فهرنهايت 11/9" للمخرج الأمريكي مايكل مور "1954 ....." الذي حصل علي السعفة الذهبية في مهرجان كان 2004 والذي عرف بجسارته وتصديه للعديد من القضايا كالعولمة وحرب العراق وسيطرة الشركات العملاقة. وفي مسابقة الأوسكار التي تنظمها أكاديمية علوم وفنون السينما الأمريكية جائزة للفيلم التسجيلي يتقدم لها عشرات الأعمال من انحاء العالم. ولدينا هنا في مصر مهرجان للفيلم التسجيلي ومخرجون تسجيليون مجيدون ولكن الابداع "التسجيلي" بمعايير عالمية شيء نادر. والفيلم التسجيلي الطويل أكثر ندرة.. والملاحظ تراجع هذه النوعية في مصر موضوعياً وفنياً وعجزها عن التنافس الدولي والجدير بالملاحظة غياب الاهتمام والجدية ازاء هذه النوعية من الأفلام الوثائقية رغم أهميتها الشديدة ودورها المتزايد في المجال الثقافي التنويري والحضاري والتعريف بواقعنا وتاريخنا والمتابع للقنوات المتخصصة في هذا النوع يدرك فداحة الخسارة ومدي التخلف الذي نعاني منه.