منذ 71 سنة أثار المخرج كمال سليم "1913 1945" قضية الفساد الذي يحدث في مطاحن القمح. وفكرة التلاعب في كميات توريده. ودور العمال في هذا النشاط الذي يتم لحساب المسئول عن إدارة المطاحن.. تعجبت وأنا أتابع بالأمس الحوار في فيلم "المظاهر" "1945" بين "نبيل بيه" "استيقان روستي" وبين "عبدالمعطي" العامل الفاسد الذي يعتمد عليه المدير في تنفيذ مآربه ومن ثم يجني ثروة كبيرة من وراء تهريب نسبة من الكميات بعيداً عن صاحب المطاحن. تصادف مشاهدتي للفيلم علي إحدي القنوات الفضائية بينما الصحف اليومية تتابع قضايا فساد مروعة من نفس الصنف وفي ذات المجال ومتي "؟!" بعد ثورات يوليو ويناير ويونيه ويوليو "3 يوليو" وبعد هزائم وانتصارات ومعارك آنية نخوضها ضد الفقر وضد الفساد المستشري والإرهاب وضد الإثراء علي حساب الغذاء اليومي. وفي سلعة تدخل في اختصاصات أمن الدولة لأن غيابها يمكن أن يقيم الدنيا ولا يقعدها..!! يلعب "استيفان روستي" الشرير المحنك شخصية مدير أملاك "رضوان بيه" "فؤاد شفيق" المسئول عن إدارة المطاحن. في التليفون يبلغ "عبدالعاطي" رئيسه: وصلت دلوقتي كمية كبيرة قوي من القمح.. عشرة آلاف أردب لسة ما نزلوش من اللوريات.. "نبيل بيه" "استيفان روستي" تسعة آلاف منهم توزعهم باللوريات اللي شيلاهم. وتوضبهم بالطريقة إياها. والعمال اللي أنت مش مالي ايدك منهم وزعهم وأنا مضيت "رضوان بيه" علي إقرار يعفيني من أي مسئولية!! مخرج الفيلم كمال سليم هو نفسه كاتب القصة والسيناريو والحوار تشعر وكأنه مكتوب هذه الأيام في معمعة الكلام الدائر عما جري في هذا المجال!! والفيلم يشير ليس فقط إلي قضية حساسة بهذه الخطورة رغم أنها تمثل خيطاً واحداً عابراً في حبكة الفيلم. وإنما يسرح مؤلفه كالعادة عبر المشهد الاجتماعي في ذلك الحين ليرصد قصة رومانسية تكررت عشرات المرات ولكنه يعالجها من منظور اجتماعي يسلط الضوء علي الصراع أو قل الصدام بين سكان "باب الشعرية" الحي الشعبي العتيق وبين سكان الزمالك والأسرة البورجوازية التي تسكنه ويختار "هنية" "رجاء عبده" الفتاة الجميلة اليتيمة التي تموت خالتها وتترك لها سراً وعليها أن تبحث عنه ألا وهو وجود عم لها هو ما تبقي من أقاربها وعليها أن تجده وتذهب إليه. وبمعاونة العامل الطيب "محمود الميكانيكي" "يحيي شاهين" تعثر بالفعل علي هذا العم العصامي الذي استطاع بمحهوده وكفاحه أن يكون ثورة اصبحت تتحكم فيها زوجته المتغطرسة وصار بفضل هذه الثروة من سكان الحي الارستقراطي يعيش فيه إلي جوار هذه الزوجة وأولادها من زيجة سابقة وتترك "هنية" حي باب الشعرية إلي الحي الأنيق حيث تلتقي ب"أم عزوز" "فردوس محمد" الخادمة الطيبة ابنة نفس الحي والتي أتي بها العم "رضوان" لحبه في أهله وحيه وثقافته وتقاليده. قيمة المخرج كمال سليم تكمن في موقفه المنحاز للعمال والطبقات الشعبية وللحارة المصرية لأنهم يقدرون قيم العمل والتكافل والمكسب الحلال ويرفضون "التهتك والخلاعة" والانغماس في اللهو الفارغ وعبادة المظاهر والمال. الحبكة ليست جديدة وإنما الجديد أسلوب التناول الذي يعتبر جديداً علي السينما المصرية.. وإن لم يكن غريباً بالنسبة للسينما الأوروبية التي بشرت بالواقعية الجديدة الإيطالية وقبلها الواقعية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي.. ففي هذه الفترة هبت تيارات حررت السينما من الفخامة والتليفونات البيضاء والاستديوهات والديكورات المصنوعة. وكمال سليم مات وهو في شرخ الشباب بعد أن قدم فيلم "العزيمة" "1939" واحد من أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما والمخرج الذي احتفي بالحارة وبسكانها ويبشر بقيم العمل. وغير من مفهوم النجاح والكفاح.. و"المظاهر" يأتي بعد "العزيمة" بست سنوات فقد تم انتاجه بعد انتهاء سنوات الحرب العالمية الثانية والمجتمع لاشك كان يعاني ومع ذلك فالمزاج العام الذي يشيعه يؤكد حالة سلام مع النفس وإيمان بالأخلاق والكسب المشروع والتبشير بانتصار الخير. في "المظاهر" يرصد المخرج المؤلف البذور التي كبرت لاحقاً حتي توحشت. فلم يعد العامل الفاسد يقوم بتهريب تسعة آلاف أردب ولا يتسبب المسئول في خسارة عادية وإنما في مئات الملايين دون أن يرمش له جفن. والمثير للعجب أن المرض الاجتماعي الذي كان ينبغي أن يزول قد استفحل وبات خبيثاً وانتشر وكاد يقضي علي الجسد والسينما التي وضع لبناتها أمثال كمال سليم منذ أكثر من سبعين سنة بدورها ابتعدت في كثير من الأحيان عن مشكلات الواقع الفعلية واختلفت في معظم انتاجها دروباً للهروب في خيالات لا تمس الواقع اليومي الفعلي للإنسان وللأسرة المصرية. نموذج "هنية" بنت حي باب الشعرية التي اعتقدت "شريفة هانم" "ميمي شكيب" امكانية ابتلاع ثروتها من خلال "نبيل بيه" والذي سال لعابه في الحال ونصب شباكه حولها أملاً في الاستيلاء علي الثروة التي تمثل نصف ثروة عمها "رضوان حمزة" "فؤاد شفيق". هذا النموذج أصبح يمتهن "التهتك" ويمارس الخلاعة بصفاقة في معظم الطبقات اللاحقة وكذلك نموذج بنت البلد وبعد أن كان الترفيه يعتمد علي راقصة واحدة في الفيلم "نبوية مصطفي" ومونولوجست "إسماعيل يس" من الطبقة الشعبية اتسعت الشاشة لتشمل "قرطة" من الراقصات وتطورت لغة الجسد تطوراً مثيراً واختفت العفة بالكامل في مقابل سيادة النزوع إلي الدين وتوظيفه في السياسة والسيطرة علي عقول البسطاء ولخدمة الفساد وتقنينه لقد أصبح أولاد البلد الذين يرفضون بيع شرفهم في حي باب الشعرية أصبحوا ندرة في هذا الزمان لأن "الشرف" أصبح يعني قلة حيلة ومجرد قناع لمن لا يملكون الوسيلة. أيضا أمثال "المعلم مدبولي" "عبدالعزيز خليل" في "المظاهر" أنجبوا للشاشة "عبده موتة" وأمثاله. والمؤلف المهموم بقضايا فساد وقضايا العمال ونقابتهم وحقوقهم وحريص علي تأكيد منظومة الأخلاق الطيبة التي تنبذ الأيد البطالة وتراها "نجسة" تواري هذا المؤلف لأن الشاشة ومن يملكون مقدرات ما تعرضه علينا يشجعون بضاعة مختلفة.. رغم أن انتاجه موجود ومنشور لمن يبحث عنه. واللافت الذي جعلني أتناول فيلماً مضي علي انتاجه 71 سنة لمخرج مات وعمره 32 سنة حسب التواريخ المدونة هو مظاهر "الوعي" التي كشف عنها الفيلم.. والصدفة التي تجعلني أشاهده بعد قراءة تحقيق مطول عن فساد ما يجري في المطاحن وعمليات التهريب وكوارث الاهمال التي تبدد نسبة لا يستهان بها من الانتاج الغذائي وكان المفروض أن نستبشر والدولة تحقق نجاحات في استصلاح الأراضي وفي زراعة القمح تحديداً باعتباره سلعة استراتيجية. عام 1945 وكمال سليم يخرج الفيلم لم تكن هناك أزمة خبز. ولم يكن تعداد المصريين قد وصل إلي رقم منذر ومع ذلك التقت فنان الفيلم إلي مشكلة واقعية عالجها ببساطة وفي اشارة سريعة لكي تكتشف البطلة الساذجة كم كانت مخدوعة في "المظاهر" عندما انتقلت من "باب الشعرية" إلي حي "الزمالك".. وكيف استعاد العم الطيب والثري وعيه وانتفض لكبريائه ونبذ "المظاهر" وأصر علي أن ترتبط ابنة شقيقه بالعامل الذي أحبته والذي جعله مسئولاً عن إدارة أملاكه بدلاً من اللص المتنمر "نبيل بيه". والفيلم علي بساطته يضع المتفرج أمام سؤال عويص جدا: كيف تقاوم فساداً استشري علي امتداد حقب زمنية طويلة مع أنظمة سياسية تبدلت وجوه المسئولين فيها ولم تتبدل المظاهر ولم تتوار "المظاهر" علماً بأنها لم تعد تخدع أحداً ولكنها مصيدة لاتزال جعلت نجماً من نجوم السينما الآن يتباهي بأغلي ما انتجته مصانع السيارات ولسان حاله يقول "ياعوازل فلفلوا".