كان موعدي في تمام التاسعة والنصف صباحا مع الدكتور حافظ غانم نائب رئيس البنك الدولي لشئون منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ولان المواعيد في "بلاد الخواجات" بالدقيقة والثانية. حرصت علي الذهاب مبكرا رغم أن المسافة بين مقر اقامتي بولاية فرجينيا. ومبني البنك الدولي بقلب العاصمة الامريكية دي سي "لا تزيد علي عشر دقائق بالسيارة. لكن المفأجاة ان طوابير السيارات التي تعودت عليها في مصر انتقلت فجأة الي شوارع واشنطن . بادب شديد اعتذر سائق التاكسي "الاثيوبي الجنسية" قائلا انه موعد ذهاب الموظفين للعمل. واقترح النزول قبيل المبني بعشرات الامتار لنكمل سيرا علي الأقدام للحاق بالموعد الهام. كانت اجتماعات نصف السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين "اجتماعات الربيع" التي تعقد بالعاصمة واشنطن في شهر ابريل من كل عام قد انتهت لتوها بعد نحو اسبوع حافل من الاجتماعات الرسمية والفاعليات الكثيرة التي اقيمت علي هامش الاجتماعات وتناولت كافة القضايا الاقتصادية الدولية والاقليمية. وما بين مبني الصندوق والبنك الدولي المتجاوزين في قلب العاصمة "دي سي" كانت المنطقة العربية وخاصة دول الربيع العربي. احد الملفات الهامة المطروحة امام اجتماعات الربيع من خلال العديد من الندوات وورش العمل. الاسباب عديدة اهمها الصراعات السياسية والتوترات الامنية والتي أثرت سلبا علي اقتصادات المنطقة. فضلا عن المتغير الجديد الذي ناقشته الاجتماعات لاول مرة وهو قضية تراجع اسعار النفط العالمية واثرها علي المنطقة بحسابات الربح والخسارة. أهم ما حملته اجتماعات الربيع للمنطقة هو العقد الاجتماعي الجديد الذي طرحه البنك الدولي في تقريره الصادر بعنوان "نحو عقد اجتماعي جديد". ويمثل نموذجا جديداً في التنمية بديلا للعقد القديم الذي بدأ في مطلع الستينات. كان العقد الاجتماعي الجديد وكثير من القضايا التي تهم مصر والمنطقة مجالا لحوار "المساء" مع الدكتور حافظ غانم نائب رئيس البنك الدولي لشئون منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا بمقر البنك الدولي بواشنطن. والدكتور حافظ غانم. المصري الجنسية تولي منصبه الجديد قبيل شهر ونصف فقط بعد رحلة عمل طويلة بالبنك الدولي استمرت لمدة 24 عاما بدأت عام 1983 وانتهت في 2007 وشارك خلالها في عمليات ومبادرات البنك في نحو 20 بلدا في افريقيا واوربا والشرق الاوسط واسيا الوسطي ليعود نائبا لرئيس مجموعة البنك الدولي. "زيادة الاستثمارات" قال غانم في حواره مع "المساء" ان البنك الدولي قرر زيادة استثماراته في مصر الي نحو 5 مليارات دولار خلال ال 4 سنوات المقبلة. وان هناك تمويلاً بقيمة 500 مليون دولار سوف يعرض علي مجلس ادارة الصندوق لاعتماده خلال الاسبوع الجاري ويوجه لتمويل الاسكان الاقتصادي. وقال ان الدروس الخصوصية في مصر قضت علي مجانية التعليم مشددا علي ضرورة تحسين جودة الخدمات وفي مقدمتها التعليم والصحة. وأكد ان البنك غسل سمعته السيئة من خلال منظومة سياسات جديدة بدات منذ التسعينيات. والي نص الحوار * دعا البنك الدولي في تقريره الاخير الذي طرحة خلال اجتماعات الربيع الي عقد اجتماعي جديد لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا وفي القلب منها تقع مصر. ما هي ملامح هذا العقد وما تقييمكم لنموذج التنمية القديم؟ * في الستينات من القرن الماضي اتبعت مصر نظاما للمساندة الاجتماعية ومساعدة الفقراء يقوم علي دعم اسعار السلع والخدمات الاساسية وهو ما يطلق عليه "الدعم العيني". الان الدنيا تغيرت واكتشفنا ان غالبية الدعم تذهب الي غير المستحقين. وهناك دراسات تؤكد ان الاغنياء يحصلون علي نحو 70% من الدعم مقابل 30% للفقراء. قد نكون في الماضي لا نستطيع تحديد مستحقي الدعم علي وجه الدقة. لكن الان ومن خلال التقدم التقني والتكنولوجي الكبير نستطيع استهداف الفقراء. ففي مصر يوجد اغلب الفقراء في مناطق الصعيد والارياف. وافضل نظم الدعم الان هي الدعم النقدي والذي تحولت اليه غالبية دول العالم ويستهدف العقد الاجتماعي الجديد توفير فرص عمل جيدة للشباب واتباع السياسات التي تحقق نمواً احتوائياً "شاملاً" يستفيد منه كل فئات المجتمع. وتحسين نوعية الخدمات خاصة التعليم والصحة. واقرار مبدأ المحاسبة لمقدمي الخدمات. * ولكن تقرير البنك الدولي "نحو عقد اجتماعي جديد" اكد ان العقد القديم حقق بالفعل نتائج جيدة لعل اهمها وفقا للتقرير معدلات نمو تتراوح بين 4 و 5 %. معدلات فقر منخفضة. اسرع تراجع لوفيات الرضع في العالم. 100% نسبة الالتحاق بالتعليم الابتدائي ومعدلات عالية للالتحاق بالتعليم الثانوي خاصة بين النساء الي جانب مستويات مقبولة من المساواة. فضلا عن توفير فرص العمل. لماذا ترفضون هذا النموذج الان؟ * هذا النموذج قد بلغ حدوده القصوي وبدأ في التصدع. ليتدني مستوي خدمات التعليم والصحة. فهناك مجانية في التعليم ولكن دون جودة وهو ما انعكس علي مستويات البطالة الكبيرة والتي بلغت ذروتها بين الشباب وارتفعت هذه النسبة في مصر الي 30%. وزادت معدلات التوظيف من خلال القطاع غير الرسمي. ولعل هذه الاسباب كانت وراء ثورات الربيع العربي. الان يجب ان تتغير السياسات ليتم التركيز علي جودة الخدمات المقدمة. وتقليل معدلات الفقر وزيادة حجم الطبقة المتوسطة. مجانية التعليم * وهل تتعارض مجانية التعليم مع الالتزام بمعايير الجودة المطلوبة وهل انتم مع مجانية التعليم؟ * انا مع مجانية التعليم. ولكن بالجودة المطلوبة. والحادث الان ومع انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية في مصر اصبح التعليم غير مجاني. انا ضد الدروس الخصوصية واري ضرورة تحسين جودة التعليم التي انخفضت بشكل كبير خلال الفترة الماضية. وتحسين الجودة يتطلب تمويلاً وادارة جيدة. * هل استفاد صندوق النقد والبنك الدولي من دروس ثورات الربيع وهل تغيرت سياسات البنك في مصر بعد ثورة 25 يناير؟ * ارجو ان نكون قد استفدنا بالفعل. وسياسات البنك في مصر حاليا تهدف الي تحقيق النمو الاحتوائي الذي يشمل الجميع ويستفيد منه كافة فئات المجتمع. فقد كانت مصر في فترات سابقة تحقق معدلات نمو تتراوح بين 6% و 7% وهي نسبة محترمة ولكن لم يشعر بها الفقراء فلم تتحسن احوال معيشتهم كما لم يشعر بها الشباب الذين زادت معدلات البطالة بينهم. والبنك يستهدف حاليا نمواً نوعياً يخلق فرص عمل لائقة للشباب ويخفض معدل البطالة الذي بلغ نحو 30% بين الشباب. ولاتاحة فرص التشغيل الجيدة لابد من رفع جودة وكفاءة التعليم. المشروعات الجديدة * ما احدث مشروعاتكم في مصر والتي تحققون من خلالها هذه الأهداف؟ * لقد قرر البنك زيادة استثماراته في مصر لتتراوح بين 4 و 5 مليارات دولار خلال السنوات الاربع المقبلة بواقع مليار و 200 مليون دولار سنويا. واول مشروع وقعناه مع الوفد المصري المشارك في اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدولي - لصالح شبكة الضمان الاجتماعي من خلال دعم مشروع "كرامة وتكافل" الذي تتولاه وزارة التضامن الاجتماعي. وقد وقع البنك قرضاً ميسراً بنحو 400 مليون دولار لتمويل المرحلة الاولي للمشروع الذي يقوم علي تقديم مساعدات مالية للاسر الفقير وكبار السن. والمشروع الثاني المهم والذي يقدم لمجلس ادارة الصندوق 5 مايو الجاري "الثلاثاء" المقبل لاعتماده. هو قرض بقيمة 500 مليون دولار لتمويل الاسكان الاقتصادي ويشمل المشروع عددا من المحافظات المصرية ** هل تتوافقون مع الحكومة علي المشروعات التي يتم تمويلها؟ * الحكومة تحدد المشروعات التي تريد تمويلها. والبنك حر في اختيار نوعية المشروعات التي يقوم بتمويلها في اطار الاهداف التي يبغي تحقيقها في اطار سياسات مكافحة الفقر ** تحدثتم عن اهداف تقليص معدلات الفقر وتنمية الطبقة المتوسطة. كيف يمكن تحقيق ذلك في مصر؟ * جميع الدول التي نجحت في التنمية خلال العقدين الماضيين مثل البرازيل اتبعت سياسات ادت الي رفع معدلات النمو وزيادة حجم الطبقة المتوسطة وتحسين احوالها وذلك من خلال ضخ استثمارات كبيرة عامة وخاصة في القطاعات الاقتصادية خاصة التي تولد فرص تشغيل كبيرة ومن اهم هذه القطاعات المشروعات الصغيرة والمتوسطة. وللاسف مازال هذا القطاع لا يحظي بالاهتمام الواجب في المنطقة العربية. فالمستثمر الكبير يحصل علي كافة الحوافز والدعم اما الصغير فلا يستطيع الحصول علي مثل هذا الدعم. من هذه السياسات ايضا تحسين كفاءة التعليم والصحة وشبكة الامان الاجتماعي لمنع الوقوع في براثن الفقر. ** وهل يستطيع البنك المساعدة في تفعيل هذه السياسات؟ * البنك الدولي لا يستطيع التدخل مباشرة في سياسات الدول فهو يتيح التمويل للمشروعات ومن بينها المشروعات الصغيرة. لكن السياسات تبقي مسئولية الحكومات والبنك لا يقرض سوي الحكومات والقطاع العام فيما تقرض مؤسسة التمويل الدولية - وهي احدي مؤسسات مجموعة البنك الدولي - القطاع الخاص. سمعة البنك الدولي ** سياسات البنك الدولي وصندوق النقد كانت لها سمعتها السيئة لارتباطها في اذهان الشعوب "بالروشتة" الشهيرة التي تضر بمستوي معيشة الناس مثل الغاء الدعم او فرض الضرائب. هل غير البنك سياساته بعد ثورات الربيع العربي؟ * هذه السمعة السيئة كانت زمان ولم تعد موجودة الان. فقد كان البنك يركز علي تحقيق النمو دون الاهتمام بنوعيته عملا بنظرية "تساقط النمو" الشهيرة والتي تعني ان مجرد تحقيق معدلات عالية من النمو سوف يستفيد منها الجميع دون حاجة لسياسات تضمن ذلك. لكن منذ نحو عشرين عاما وابتداء من سنة 1995 حدث تغير كبير في سياسات البنك. وفي ظل رئاسة "جيمس ولفنسون" تعزز هذا التغيير من خلال اتجاه البنك لتمويل المشروعات التي تساند الفقراء واستمر هذا التوجه حتي الان في ظل رئاسة "جيم كيم" ليولي البنك اهتماما كبيرا بسياسات النمو الاحتوائي. واستهداف الفقراء ومساعدة الطبقة المتوسطة لتحسين احوالها واتساع نطاقها لتشمل الكثيرين ممن خرجوا من براثن الفقر. ويري البنك الآن ان دورا اساسيا للدولة في قطاع الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية. ** كيف تنظرون الي مؤتمر الاقتصاد المصري الذي عقد في شرم الشيخ في مارس الماضي؟ * مؤتمر شرم الشيخ كان له تاثير جيد علي الاقتصاد المصري. وقد حصلت مصر علي تعهدات بالاستثمار في مصر من جانب الكثير من الدول المشاركة بخلاف حصولها علي ودائع واستثمارات خليجية تقدر بنحو 12.5 مليار دولار. ويمكن ان يساعد ذلك في زيادة معدلات النمو خلال السنوات المقبلة "تراجع أسعار البترول" ** المتغيرات الدرامية التي تشهدها المنطقة العربية حاليا ابتداء من التوترات السياسية ووصولا الي التراجع التاريخي في اسعار النفط وانتهاء بعاصفة الحزم. كيف ترون التأثيرات الاقتصادية لكل هذه المتغيرات علي بلدان المنطقة ومن بينها مصر؟ * الصراعات السياسية في المنطقة وتشمل اليمن وسوريا وليبيا والعراق وتونس ومصر رتبت اوضاعا سيئة علي اقتصادات هذه الدول. وقد كنت في تونس وقت ان وقعت مذبحة المتحف. والتي اثرت علي السياحة التونسية وقد مول البنك مشروعات في اليمن بنحو مليار دولار خلال السنوات الاربعة الاخيرة. وتم تدمير هذه المشروعات في الصراعات الاخيرة. واعتقد ان هناك اسبابا اقتصادية واجتماعية ومؤسسية لهذه الصراعات. وزيادة النمو وتحسين اوضاع الشباب من الجوانب المهمة لمعالجة الصراعات الدائرة حاليا. الي جانب زيادة كفاءة الخدمات التي تقدمها الدولة والتي تعد من العوامل الاساسية لتحقيق الاستقرار. وقد تحدثنا خلال اجتماعات الربيع عن هذه الاوضاع وعن الوسائل المناسبة لتحسين اوضاع المنطقة اقتصاديا واجتماعيا ومؤسسيا. اما تراجع اسعار البترول فقد انعكس بالايجاب علي البلاد المستوردة مثل مصر والمغرب وقد استفادت حكومات هذه الدول من انخفاض فاتورة الدعم والتي يتم توجيه فوائضها الي التعليم والصحة وشبكة الامان الاجتماعي علي الجانب الاخر تاثرت الدول المصدرة للنفط واهمها دول مجلس التعاون الخليجي ولكن مع وجود احتياطات كبيرة علي المدي البعيد فلن يكون هناك تاثيرات كبيرة علي هذه الدول. وقد تكون مشكلة اسعار النفط فرصة لدول الخليج للعمل علي تنويع سياساتها الاقتصادية وتنويع مصادر ايراداتها لتشمل الصناعة والزراعة والخدمات وليس فقط الاعتماد علي الاقتصاد القائم او المرتبط بالنفط فمثل هذا الاقتصاد سوف ينتهي دوره اجلا او عاجلا ومن الخطر الاعتماد علي مصدر واحد يكون عرضه للتغيير في اي وقت. ** هل يتعاون البنك الدولي مع الصناديق العربية لتمويل مشروعات التنمية في المنطقة؟ * نعمل مع كافة الصناديق العربية مثل الصندوق العربي للتنمية وصندوق النقد العربي والصندوق السعودي والبنك الاسلامي وقد وقعنا معه اتفاقية لتمويل مبادرة دعم برامج التعليم في المنطقة.