لا يحتاج "عبدالرحمن الأبنودي"- بالطبع - إلي من يقدمه للناس. لأنه حاضر أمامهم طلعة وطّلة. وصوتاً هادراً. وجاذبية مغناطيس يشد ما حوله. ولا يحتاج "عبدالرحمن الأبنودي" إلي من يحلل الإنسان فيه. فالخلاصة في شأن "الأبنودي". أنه شراع علي النيل جاء من صعيد مصر. مرتحلاً إلي الشمال. حاملاً معه خصب النهر العظيم. ينثره حيث يصل. ويحول الطمي بالفن إلي زهر وورد- وإلي شوك أحياناً!! وأخيراً لا يحتاج "عبدالرحمن الأبنودي" إلي من يمهِّد لعمله. فذلك العمل أغنية تتردد صوتاً وصدي في أرجاء الوطن. وحين سألني "عبدالرحمن الأبنودي" إذا كنت استطيع تقديم مربعاته. عندما تُنشر علي شكل كتاب. فإن طلبه أسعدني ليس فقط لأنني كنت أتمني لهذه المربعات أن تظهر كاملة علي شكل كتاب. وإنما سعادتي أن طلبه جاء فرصة متجددة. أقرأ فيها المجموعة موصولة ببعضها. بعد أن تابعتها يوماً بيوم. تُنشر متقطعة علي صفحات جريدة يومية. وتصورت في كل الأحوال أن قراءة المخطوطة في صورتها الأصلية. وقبل أن تدور بها المطبعة. فرصة حميمة بين المربعات وبيني. تتيح لي قراءتها مكثفة مركزة!! تحمست- إذن- لكتابة مقدمة للمربعات دون أن يخطر ببالي لحظتها. أن الأمر أصعب مما تصورت. وأعقد مما قدّرت!! عندما قرأت هذه المربعات من جديد مرة واحدة. وباهتمام غير متقطع تجلت أمامي مربعات "الأبنودي" علي صورة مختلفة. تذكرت المقولة الشهيرة التي سمعناها قبل أربعة قرون من فلاسفة جامعة "فرايبورج"- وهي من أوائل جامعات زمن النهضة - أن كل الأنهار تتسابق إلي البحر. إشارة إلي وحدة المعرفة مع كثرة المنابع!! في القراءة المتقطعة الأولي. فإن المربعات كل يوم بدت لي نوافذ علي فضاء لا يصل إليه النظر. وعند القراءة الثانية الموصولة سياقاً واحداً. بدت لي المربعات أفقاً غير محدود. ساحة بحر واسع. لكنه خضم حافل بكل فصول الطبيعة في الوقت نفسه. في اللحظة ذاتها.. صامت هادئ في موقع. غاضب هائج في موقع آخر. نائم حالم قُرب صخرة. ثائر جامح يضرب نفس الصخرة بقوة إعصار. سألت نفسي طويلاً. كيف يمكن وصف هذا المشهد غير الطبيعي علي لوحة الطبيعة ذاتها: ساحة واحدة. ومناخ تتباين ظواهره من صيف إلي شتاء. ومن ربيع إلي خريف. وشراع مرفوع دخل إلي البحر قادماً من النهر. سر مربعات "الأبنودي" يتجلي عند القراءة الموصولة. هومحاولة جديدة وتلقائية ما بين الأدب والسياسة. بين الفكر والتاريخ. بين الفن والثورة.. هوشاعر عاش وسط الجماهير. وهي تحاول بالثورة أن تصنع مستقبلاً. وهولا يغني لهذا المستقبل من بعيد. وإنما ينشد من وسط الجموع وبلغتها. وهي تتدافع بالزحف أحياناً. وبالتراجع أحياناً أخري. خطوة بالأمل وخطوة بالألم. وهي أحياناً صيحة بالفرح تهلل. وفي أحيان أخري جرح بالوجع مفتوح!! والثائر الشاعر في قلب المعمعان. هوالثائر يوماً. وهوالشاعر في اليوم التالي. هوالفعل في الصبح. وهوالضمير في المساء.. ما يدعوللتأمل أن "عبدالرحمن الأبنودي" واصل كتابة مربعاته سنة كاملة. يوماً بعد يوم. وصباحاً بعد صباح. لا يسكت. ولا يهدأ. ولا يكل. ولا يمل.. يصيح بالقلق علي السياسة أن تتماسك لتصنع تاريخاً. ويصرخ بالنذير حتي يمنع النسيم أن يتحول إلي عاصفة. ويمسك بالجمع لا ينفك إلي شراذم. ولا يتفرق إلي هباء!! يريد للتاريخ أن يتحول إلي نبوءة. ولا يريد للسياسة أن تتحول إلي لعنة. وهويواصل المحاولة لعام كامل. مربع إلي جانب مربع. نافذة بعد نافذة. ثم تتجمع النوافذ. وتنفتح علي بعضها. فإذا هي بحر متلاطم. وأفق بعيد. والقراءة الموصولة للمربعات هي وحدها التي تكشف وتبين!! ساءلت نفسي بعد القراءة الثانية الموصولة للمربعات بعد سنة كاملة. واصل فيها "عبدالرحمن الأبنودي" كتابة مربعاته. ثم أغلق دفترها ونحي القلم. هل استراح واطمأن. ورأي أن يعطي نفسه لحظة هدوء وصفاء بعيداً عن صخب البحر وموجه العاتي وصخره؟!! أم أن القلق استبد به خشية أن يضيع صوته في اللامحدود. يطغي عليه هدير البحر ويغطي نشيده؟!! هل أرهقه الإيقاع المنتظم كل صباح. وحسبه قيداً علي الشاعر. لأن الشراع لا يطيق قيداً أورباطاً. ولا خطاً ملاحياً يحدد مسار حركته مسبقاً من النهر إلي البحر؟!! لا أعرف جواباً قاطعاً. لكني أعرف أن الشراع القادم علي النيل من صعيد مصر إلي شمالها. مازال يصارع في أعالي البحار. والريح مازالت تملأ ذلك الشراع. وهويواصل رحلته إلي أفق لم يظهر بعد شاطئه!!