"لا تعرف أخري أن تحكي مثلي. لا تجيد تتبع أثر الحكاية. مثلما اتتبعها. أنا الآن في نهايتها" هذا هو السطر الثاني من بداية الرواية في فصلها الأول. وهو خليق بأن يكون سطرها الأول. فهو بؤرتها. فهذه الرواية رواية أسطورة مستندة إلي الواقع. أكثر منها واقعا مؤسطرا. هذا السطر بمثابة الجمل الافتتاحية التي مرت في ألف ليلة وليلة أو الحكايا الشعبية. لكنه افتتاح جديد. ليشيد الحكاء بقدرته علي الحكي. وقدرته علي ما هو أكثر من ذلك. وألا يتوقف عند مجرد نقل المرويات كما سمعها أو شاهدها. بل يتدخل في مسار السرد. مما يشي بديكتاتورية رسم مسار الشخوص لا يسمح لشخوصه بممارسة براجماتيتها. بل تمارسها وفقاً لما يريد الراوي. موحياً بأنه لا علاقة له بما يحدث تماما. لكن كل الشخصيات الأسطورية هي من صنيع هذا الراوي. وهو الذي منحها وجودها علي كل المستويات. يقول الناقد الفرنسي بير برونيل: "الأساطير هي كل ما يحوله الأدب إلي أساطير". هذا هو بؤرة الحكي. أسطورة واقعية. تناولها بشكل أدبي عبر حكاية متشعبة كتغريبة بني صابر. تيمة الضياع والبحث عن الذات والبحث عن الآخر. عبر قري ومدن كونية لا حدود لها حتي لو ذكر اسم بعضها فقط "كيرونا. الأقصر. منية المرشد. منية المهدي. تزمامارت. وغيرها من قري وأماكن. لكنه في الحقيقة بحث كوني أسطوري لا نهائي. يؤدي العديد من الوظائف. يخفي بين سطوره الكثير سياسياً. للإسقاط علي الواقع. عبر ماض وحاضر ومستقبل. يستخدم الأسطورة. الأوراد صوفية ممزوجة بالموروث الشعبي والديني. مناقشاً الأحوال المجتمعية والسياسية والدينية. واغتراب الذات عبر زحام من الأحداث والشخوص والأمكنة وعشرات الأساطير. عبر قرية للصيادين ومجتمع الفلاحين وتعاويذ ورقي وتمائم ودراويش ومعجزات كالعجوز الحامل والغياب اللا مبرر لبطل التغريبة. يمر عبر ذاكرة جمعية قادرة علي الاحتفاظ التام والكلي بكل ما كان وكل ما سيكون. لم تتمايز شخوص مختار سعد شحاتة رجالاً ونساء. فالكل يعيش التجربة ويعانيها. فالمجتمع الذكوري يعاني القهر تماماً كما يعانيه المجتمع الأنثوي. لأن هناك نواميس تمارس دورها وفق لعبة لا يمكن لأحد تجاوزها. فالصياد يري انه الأعلي والأقوي من الفلاح. حتي انه يجبر كل مار من الفلاحين علي الانحناء لتمثال مصنوع من الطين. دلالة علي تدني مرتبتهم بالنسبة لمجتمع الصيادين. حتي سعي الفلاحين لتغيير الواقع لم يكن يسيراً. بل لم يستطع الفلاحون تغيير هذا الواقع. كما أن الضائعين لا يعودون عادة. أهدي مختار الرواية إلي كل من دخل غرفة الشباب يوماً ويعلن انه لا يخجل من التشابه المتعمد مع الواقع. بل هو يريد أن يقول ان هذه الأسطورة ذات علاقة كبيرة بالواقع. وان أفرادها علي قيد الحياة. وانه صنع من حيواتهم أساطير جديدة حتي من قضي نحبه. بل بالأحري. حاول إيجاد وجود واقعي لأساطيرهم. يعيش في ذاكرة بلدتنا الصغيرة. تميزت فصوله بعناوين وأشخاص مثل "إشراق. الديك. القطب. بهلة. ياسمين. لي لي. علياء. ونور. حسن" وغيرها. أعلن عن مصادره بحس صحفي يجيده "حدي الصيادين بمنية المرشد قمت بجمعها من الحاج محمد عيسوي. والحاج محمد عبدالفتاح شحاتة". ويغتنم الفرصة. بمنحنا شيئاً من حداء الصيادين في مفتتح كل فصل ذي علاقة بموضوع الفصل". أول كلامنا مديح الزين بزيادة. محمد الزين كحيل العين بزيادة كامل وطاهر القدين بزيادة. وكذلك: السبع سكن الخلا. والكلب سكن جناين وردها ينشم حكم الزمان يوم ع الكلب. قال له الأسد يا عم! كانت هذه المفتتحات الأولي ذات دلالة لطبيعة الأحداث التالية. لكنه لم يكتف بها. بل صدر كفصل بافتتاحية صوفية أخري مضفراً الشعبي الصوفي ليمنحك ما يشاء من ضبابية أو كشف. تاركاً لك هنا دون ديكتاتورية هذه المرة أن تختار ما تشاء من رؤي ووعي. كما يقول الباحث الفنلندي صامولي شالكه "ليس من باب الصدفة أن تتحرك أحداث الرواية من بحيرة البرلس. تكاد تكون غير موجودة علي خارطة مصر. المركزية فيها والسيادة للقاهرة. إلي مدينة كيرونا السويدية التي تقع في أقصي شمال البلاد وهي الأخري بعيدة عن السلطة السياسية والقوة الاقتصادية حتي ان إحدي بطلات الرواية تصرح مستنكرة: "منذ متي تتصف بالإسكندرية أبناء بلدتنا يا مسكينة. قالت عمته إشراق. ولازالت ترهف السمع للحكايات التي تضمن لنا الخلود. والخلود لا يتحقق إلا بالمعرفة". تداخل الزمن في الرواية وطويت الأمكنة وتناسخت ملامح الشخوص عبر واقع مؤسطر وأسطورة واقعية في مزيج يسير من قدرة علي فعل ذلك. الكل ينظر تحقق بشارج الشيخ خيري السلفي والمجذوب العقل. أن يأتي ببشارة غريبة. فيصدقه نور الذي لا يؤمن بدين بعينه ويسعي وراءها. رواية ممتعة لقاريء سيحلق بعيداً بقراءتها. ومجهدة لناقد يلهث للقبض علي مفرداتها باذخة الثراء.