ليس كل ما تقدمه الصحف يستحق أن تتوقف عنده.. لكن الصرخة المدوية التي أطلقها الرائد التربوي د. سعيد اسماعيل علي حول خطورة الأوضاع الحالية للتعليم تستحق من كل وطني غيور خاصة إذا كان في موقع مسئول أن يتوقف ويتدبر ويوقظ ضميره لكي نصحح المسار الخاطيء الذي نتخبط فيه وننقذ مستقبل هذا الوطن. وقد جاءت صرخة الدكتور سعيد في مضمون الدراسة العلمية القيمة التي نشرها علي صفحة كاملة بالأهرام يوم الأربعاء الماضي تحت عنوان "شروخ في جدار الأمن التربوي المصري".. وفيها يرصد مستويات التعدد في نظامنا التعليمي الذي بدأ بازدواجية ما بين المدني والديني.. ثم تشعبت الازدواجية إلي ازدواجيات ما بين تعليم حكومي رسمي وتعليم خاص وتعليم أجنبي.. وهو تعدد أهوج خلق حالة من الفوضي والعشوائية وأخل بالمساواة بين المواطنين وأخرج قطاعات وفئات من المتعلمين متنافرة ثقافيا واجتماعيا وقطاعات أخري منقوصة أو مهزوزة الهوية.. وفي ذلك كله إخلال وتهديد للأمن التربوي الذي هو فرع أصيل من الأمن القومي. وسبق أن حذر مفكرون كبار من هذه الفوضي التعليمية في مقدمتهم طه حسين ود. ابراهيم بيومي مدكور ود. عبدالعظيم أنيس.. وطالبوا بضرورة أن يكون هناك مقدار من مناهج التعليم وبرامجه مشتركا بين المصريين وأن تشرف عليه الدولة بالملاحظة والتفتيش والامتحان .. انطلاقا من ان المصريين جميعا مشتركون فيه شراكة عادلة.. سواء تعلموا في المدارس الرسمية أو المدارس المصرية الخاصة أو المدارس الأجنبية أو في الأزهر ومعاهده. ويوضح د. سعيد اسماعيل علي انه في عام 1953 تم توحيد التعليم في المرحلة الأولي حتي ينشأ الأبناء وفق معايير محددة في بداية حياتهم التعليمية ثم يكون التنوع بعد ذلك.. وبعد العدوان الثلاثي عام 1956 تم تأميم التعليم الأجنبي لتصبح مدارسه الابتدائية ملزمة بأن تعلم أساسيات التعليم الوطني الذي تحدده الدولة بهدف تحقيق "وحدة العقل العام".. لكن العجيب ان نصر أكتوبر 1973 العظيم كان مقدمة لنكسة قومية خطيرة في التعليم.. إذ فتح الارتباط بالرأسمالية الأمريكية الباب علي مصراعيه للمدارس الخاصة والمدارس الأجنبية التي تقدم للمصريين مناهج دراسية بعيدة عن اشراف الدولة وجذبت اليها أبناء علية القوم الذين يتهربون من الضوابط التي يتطلبها التعليم العام في مصر. وخطورة المدارس الأجنبية والدولية انها تدرس مناهج أجنبية لتلاميذ مصريين.. وهذه المدارس تشبه المستوطنات التعليمية حيث يعيش فيها أبناؤنا بيئة ثقافية منعزلة إلي حد كبير عن البيئة الاجتماعية والثقافية المصرية.. وينخرطون في منظومة متكاملة من القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم والاتجاهات التي تنزعهم من شجرتهم "المصرية" ليكونوا صالحين للزرع في مجتمعات أخري. وفي النهاية أصبح لدينا 6 أنواع من التعليم: التعليم الحكومي المجاني المتدني للغاية والتعليم الحكومي بلغات.. والتعليم الخاص بغير لغات.. والتعليم الخاص بلغات والتعليم الأجنبي والتعليم الديني "الأزهري" الذي تفرع هو الآخر إلي تعليم بلسان عربي وتعليم بلسان غير عربي. وبالطبع.. هناك فرق بين تعليم اللغة الأجنبية والتعليم باللغة الأجنبية والتعليم وسط بيئة أجنبية وبمناهج أجنبية. ويصرخ فينا د. سعيد اسماعيل علي "لكي يتم التناسق والانسجام بين أبناء الأمة لابد من العودة إلي التعليم العام الموحد تحت اشراف الدولة في مرحلة التأسيس والتكوين حتي يتم تغذية الأطفال والشباب بغذاء عقلي وروحي مشترك.. ويربون علي طرائق في السلوك والتفكير متشابهة ويزودون بقسط من الحقائق والمعلومات يلتقون عنده مدي الحياة". والترجمة العملية لذلك هي ضرورة أن تكون هناك مدرسة موحدة تقدم تعليما أساسياً لكل أبناء المصريين حتي نضمن تنشئة مواطن يشعر بمصريته ويعتز بها.. ولا يراها منقوصة لا تكتمل إلا بما هو أجنبي وأن يكون التنوع والتعدد بعد مرحلة التعليم الأساسي. هل وصلت الصرخة إلي أذن أحد؟!.. وهل هناك من يستطيع الإصلاح أو يجرؤ عليه؟!