لا يختلف اثنان علي أن التعليم هو الوسيلة الأكثر أهمية لتحقيق ما نتطلع إليه من تقدم ورقي. ولا يختلف اثنان علي أن ما يحققه التعليم من ارتقاء فكري وعلمي ليس أكثر أهمية مما يحققه من ارتقاء سلوكي وأخلاقي. ولا يختلف اثنان أيضاً.. علي أن التعليم لدينا يعاني من حالة انهيار كبيرة تستلزم معجزة ليخرج منها! ولا أعتقد أن حالات الغش الإلكتروني في امتحاني اللغة العربية والإنجليزية بالثانوية العامة يمكن فصلها عن حالات التحرش الجماعي العديدة التي يعاني منها المجتمع. بعد أن تحولت إلي ما يشبه الظاهرة. في الحالتين.. القضية واحدة.. وهي غياب الضمير.. وانهيار الأخلاقيات والمعايير التي تضبط حركة المجتمع وتحدد ما لك وما عليك..!! وفي غياب هذه المعايير يصبح كل شيء مستباحاً.. العرض في حالات التحرش والاغتصاب.. والجهد في حالات الغش. سواء أكان هذا الغش إلكترونياً أو بالبرشام..!! وعندما نتحدث عن انهيار التعليم.. فلن تكفي هذه المساحة المحدودة. بل ربما نحتاج إلي مجلدات لكي نوفي هذه القضية حقها! المدارس.. فوضي.. لا ضبط.. ولا ربط.. هيبة المدرس ضاعت بعد أن أصبحت يد التلميذ هي العليا عندما يأتي أول كل شهر أو في كل حصة ليعطي المدرس ثمن الدرس أو المحاضرة! أتحدي أي مدير مدرسة ثانوية.. أن يكون أي طالب في الصف الثالث قد حضر ولو 5% من أيام الدراسة في العام المنصرم..!! المدارس ليس فيها معامل.. وإن وجدت فلا يعرف الطالب طريقها.. أو ربما كانت خالية من الأجهزة والأدوات والمواد المطلوبة لإجراء التجارب..!! أتحدي أي مدير مدرسة.. لو كان أحد من المدرسين قد دخل فصلاً من فصول الصف الثالث. بعد أن هجرها الطلاب وتوجهوا إلي مراكز الدروس الخصوصية ومعهم المدرسون..!! كثير من المدرسين مستواهم العلمي محدود.. ومهارات الاتصال لديهم غير ملائمة للمهمة التي يقومون بها.. والسبب هو كيفية إعداد المعلم لممارسة المهنة.. ودخول غير التربويين في مهنة التدريس نظراً لقلة فرص العمل في مجال تخصصهم ووجود نقص في أعداد المدرسين.. أعرف خريجي هندسة يعملون بالتدريس في مدارس خاصة! مرتب المدرس.. قضية أخري.. فرغم تطبيق الكادر وزيادة المرتبات بنسبة كبيرة. نجد أنها - أي المرتبات - لا تفي بمتطلبات الحياة.. خصوصاً إذا كان المعلم يعول أسرة ولديه أبناء في مراحل التعليم المختلفة. يحتاجون إلي "دروس خصوصية" أو أدوات وأجهزة علمية يتطلبها تعليمهم الجامعي! الحديث عن مجانية التعليم.. هراء! الدروس الخصوصية تلتهم ميزانية الأسرة.. وعوائدها تذهب إلي جيوب قلة من المدرسين.. ومع ذلك لا يتم اتخاذ إجراء لتصحيح هذا الوضع..!! الجميع يشاركون في ذلك.. والنتيجة تدهور مستوي الطالب! المجتمع يتمسك بالمجانية "الموهومة".. وتنقلب الدنيا رأساً علي عقب إذا تحدث أحد عن إلغاء المجانية.. أو إذا تحدث عن رفع رسوم المدارس! ماذا لو تم رفع الرسوم المدرسية. بحيث يمكن زيادة ميزانية التعليم ورفع رواتب المدرسين مع توقيع عقوبة رادعة لأي مدرس يقدم الدروس الخصوصية..؟! أليس ذلك يصب في صالح المعلم ويصون كرامته بدلاً من أن يمد يده للتلميذ انتظاراً لمقابل الدرس..؟! أليس ذلك أجدي لتطوير المعامل والنهوض بالعملية التعليمية لتنتج لنا طالباً مسلحاً بالعلم المدعم بالتجارب المعملية التي تنمي مداركه وتدعم قدراته وتؤهله للإبداع والابتكار..؟! ألا يؤدي هذا إلي انضباط العملية التعليمية وارتباط الطالب بالمدرسة والمواظبة علي الحضور ما دام يجد في المدرسة ما يبحث عنه في مراكز الدروس الخصوصية.. ويقوي لديه القدرة علي التفاعل مع زملائه داخل الفصل ويغرس في الطلاب أسس العمل بروح الفريق. سواء عند إجراء التجارب أو عند مناقشة ما يدرسونه..؟! لاشك.. أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية أسهمت في الوصول إلي هذه الحالة من الانهيار الشامل أخلاقيا وسلوكيا والتي تحتاج إلي جهود جبارة للخروج منها..! ولاشك. في وجود علاقة وطيدة بين الانهيار الأخلاقي الذي نعاني منه والانهيار التعليمي. كما سبق القول. وربما ليس من قبيل المصادفة أن تتفجر قضايا الغش الإلكتروني والتحرش الجنسي في توقيت واحد..!! وليس بغريب أن يشكو الطلاب من صعوبة الامتحانات في ظل انقطاع العلاقة بين الطالب والمدرسة. ناهيك عما يحيط بالعملية التعليمية نفسها من ملابسات وعما إذا كان واضع الامتحان قد تعمد "تعقيد" الطلاب أم لا! كذلك ليس بغريب أن تتفشي ظاهرة التحرش الجنسي بعد أن أصبح المجتمع يعاني من حالة انفلات أخلاقي ناتجة عن العوامل التي سبق الحديث عنها.. وهي كلها عوامل ضاغطة - بل مدمرة - دفعت الشباب العاطل.. العاجز عن الزواج.. غير القادر علي إشباع حاجاته الجسدية والنفسية والمادية بالطرق المشروعة. فلجأ إلي انتهاك المبادئ والمثل والمعايير التي لم تصمد أمام عوامل هدمها والاطاحة بها..!! بالقدر نفسه.. ليس بغريب علي الطالب الذي لم يتلق تعليمه بطريقة سليمة.. أن يلجأ إلي الغش والحصول علي ما ليس له بطريق غير مشروع..!! لا فرق.. بين الغش الجماعي والتحرش الجماعي.. الجريمة واحدة في جوهرها.. مختلفة في مظهرها..!! ** أفكار مضغوطة: لا يمكن أن نحل مشاكلنا بنفس التفكير الذي تسبب في ظهورها إلي الوجود! "ألبرت اينشتاين"