لاشك أن كلمة "العقوق" قاسية لا تحتملها القلوب خاصة الآباء والأمهات كلمة نهي عنها الله فعلاً وقولاً.. بل حث وحرص علي البر بالوالدين والإحسان إليهما. تلك الكلمة لا تصبح هاجساً إلا للقلوب السليمة التي تخاف الله وتحرص علي إرضائه. ولهذه الكلمة ظروف كثيرة يعق فيها الابن أباه أو أمه ولكن في قصتي التي سأوريها لكم اليوم الصورة تختلف: جاءت صديقتي حزينة باكية وبعد أن هدأت قالت لي: - قولي إنني جاحدة وأن الله سيعاقبني بمثل ما سأفعل.. أو قومي وأصفعيني فأنا عاقة بأبي. ولأنني أعرف صديقتي تلك وأعرف أنها لا يمكن أن تكون عاقة فهي لا تنتمي لهذه الفئة.. فمن تزور المريض وتعطف علي المسكين وتبر جيرانها وتسأل عن أصدقائها.. لا يمكن أن تعق والدها مهما حدث وقبل أن يزيد عجبكم أحكي لكم خلفية صغيرة جداً عن صديقتي.. فقد ماتت أمها وتركتها هي وأخيها وكلاهما كبير ولديه بنت وأولاد.. المشكلة الحقيقية كانت في والدها.. الأرمل.. الذي قرر أن يتزوج ولم يعترضا.. بل رحبا حتي لا يصبح أبوهما وحيداً.. وبالفعل تزوج ولم يستمر المقام للزوجة التي بدت طامعة في أملاك الرجل فرغم أنها سيدة علي المعاش ولديها ما يكفيها.. إلا أنها أرادت أن تعامل كعروس شابة.. طالبته بشقة تمليك باسمها.. وأن يخرج معها كأي زوجين للنادي وللنزهات ولأن والد صديقتنا رجل مسن ومريض لم يحتمل ما أمرت به عروسه فكان الطلاق. وهنا بدأت خيوط المشكلة.. الأب يعيش بمفرده ويرفض أن يقيم لدي ابنه والابنة تذهب إليه كل يوم لرعايته لكنها تمتلك بيتاً وأولاداً.. عرضت علي والدها أن تشتري له شقة بجوارها إلا أنه رفض فهو لا يريد ترك بيته ورفض كذلك العيش مع ابنه وزوجته.. وبعد عدة أشهر كان القرار الثاني: سأذهب لأعيش في دار مسنين!! فكانت الصدمة كبيرة علي صديقتي فماذا سيقول الناس عنها؟ وكيف تحتمل إتهامات الأقارب بأنها وأخاها تركاه ليعيش في تلك الدار؟ تحدثت إلي والدها حتي يتراجع ويقبل بأحد الحلين المطروحين.. لكنه تمسك ودفع فعلاً لدار المسنين "الشيك" فهو رجل ميسور وله مطالب خاصة في الدار التي يسكن فيها.. ذهبت صديقتي للدار علها تجد حجة أو ذريعة تساعدها في عدول والدها عن التنفيذ ولكنها لم تستطع فالمكان جميل.. أنيق شيك وكأنه أحد الفنادق الهادئة بحديقة كبيرة وأنشطة ورعاية صحية وأصدقاء أو بالأصح صحبة. هنا جاءت صديقتي متوترة فالأب سيذهب بداية الشهر القادم وهي خائفة من كلام الناس ومن الله قبل كل شيء.. المشكلة التي تعانيها أنها لا تقدر علي الحياة معه في شقته كذلك لا تحب ترك شقتها وخصوصياتها لذا عرضت عليه شقة مجاورة لها ليكون تحت رعايتها وتكون هي حرة في حياتها.. لكنه رفض وأصر علي قراره. إلي هنا والحكاية تثير الجدل فمن سيقف بجوار الأب ومن سيهاجم الصديقة.. والحقيقة أنني أخبرتها أنها غير عاقة وأن تصرف والدها تصرف سليم والأصح أن يذهب لدار المسنين كما يرغب والأفضل أن تنسي وتتجاهل كلام الناس.. لماذا؟ لأن دار المسنين التي سيذهب إليها الأب هي بمثابة بنسيون كبير سيجد فيه الصحبة والتسلية والترفيه فالأب الذي لا يغادر منزله إلا لزيارة الطبيب سيجد أصحابه في رحلة أو سهرة أو أي شيء مما سيشجعه للذهاب معهم قد يرفض مرة أو مرات لكنه سيفعل وهذا شكل من أشكال الحياة لرجل وحيد ينتظر أن تنتهي أيامه.. قد يعدل ويحب تلك الأيام ويرغب فيها.. فمن يزوره مرةپلن يزوره الأخري قبل مرور الشهر علي أحسن التقديرات من الأصدقاء والأقارب إنما رفقاء الدار معه ساعة بساعة ولحظة بلحظة وهناك دور كثيرة تزوج فيها رجال ونساء وعاشا معاً في تلك الدار.. التي توفر كل شيء مقابل المال الذي يملكانه والحمد لله. الحياة في تلك الدار أفضل من صمت يعاقر الانتظار لانتهاء الأجل.. الحياة في تلك الدار بداية جديدة ربما لرحلة سعيدة لرجل أو امرأة لا يجدان رعاية ليس تقصيراً من الأبناء بقدر ما هي صعوبة الحياة. أما الصورة التي صورتها الدراما المصرية لتلك الدار علي أنها منفي ومقبرة للآباء والأمهات فهذا حقيقي في حالة واحدة فقط ومشروطة بها أن يكون الابن عاقاً أصلاً بولي أمره ويهرب وهو يملك القدرة علي زيارته ولا يفعل.. هنا تكون الطامة. لكن ما الفارق بين دار المسنين وبيت والد صديقتي إذا كانت ستزوره كما تزوره في بيته وترعاه ولكن بسعادة دون أن يكون عبئاً عليها والآباء يشعرون سريعاً بحساسية شديدة أنهم أصبحوا هذا العبء الثقيل علي أبنائهم فيمرضون ويتمنون الموت راحة لأولادهم منهم ومن رعايتهم لهم. الأمر كله لا يعدو أكثر من موروث متخلف عن تلك الدور ولكن العديد من الأهالي يسعدون خاصة عندما يذهب الابن أو الابنة لأصحابه لقضاء نهاية الأسبوع معهم... عطلاتهم أعيادهم.. وأحياناً يعتذر الآباء لأنهم ارتبطوا بالأصدقاء الذين تحولوا لأهل جدد حتي أنهم لا يستطيعون الابتعاد عنهم. ولصديقتي أقول أنت لست جاحدة اتركيه لمدة شهر وتابعي كل شيء بنفسك الرعاية الصحية المأكل والملبس وكذا حالته النفسية وإن شعرت للحظة أنه غير مرتاح عودي به.. ولكن إن تبدل الحال فلا تحرميه فرصة جديدة لحياة مختلفة بدلاً من انتظار الأجل. لابد من تغيير المفاهيم حسب تغير الأوضاع والحياة من حولنا ولن ننسي أبداً أننا لا نقدر أن نقسو علي من ضحوا بحياتهم لإسعادنا.