لقد كان سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم كريم الأخلاق منذ صغره فقد عرف بين أقرانه في شعاب أم القري بالأمانة وعدم مقابلة السيئة بمثلها. الرحمة سلوك دائم في كل تصرفاته. يتغاضي عن الصغائر ولا تعرف الأحقاد أو الضغائن طريقاً إلي أسلوبه. وينطبق في حقه ذلك الوصف الرائع الذي في سورة الأنبياء حيث يقول ربنا: "وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين" ورغم وقوف أهل مكة في وجه دعوته للتوحيد ونصرة الحق إلا أنهم كانوا يلجأون إليه في حفظ ودائعهم ويستأمنونه علي أدق خصوصياتهم. ولا يخالجهم أي شك أن تلك الأمانات لن تمتد إليها يد العبث أياً كانت الظروف وشدة قسوتها. وقد أرسي الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم أسمي قيم العدل والرحمة والأخلاق بين أصحابه وقد كان تواضعه صلي الله عليه وسلم مضرب الأمثال فها هو بين الصحابة. في رحلة وحين جاء وقت "الغداء" قال أحد الصحابة: أحضر الشاة. وقال الثاني: علي ذبحها ثم بادر الآخرون بالإشارة إلي دور كل منهم. علي الفور قال الرسول بتواضعه المعروف "وأنا علي جمع الحطب" ورفض أن يظل جالساً بينما الآخرون يقومون بمهام إعداد وجبة الطعام. هذا قليل من كثير من الجوانب المشرقة في حياته. كان يرعي كل صاحب حاجة ولم يبخل بجهد في مساعدة أي إنسان مهما اختلف معه وكانت دعوته المفضلة لرب العالمين "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". بمثل هذه السلوكيات الحميدة وضع النبي صلي الله عليه وسلم اللبنات الأولي في بناء الدولة الإسلامية فقد بعث فيها أسمي القيم الإنسانية المتحضرة فانبثقت في تاريخ العرب حياة جديدة نقلتهم من عالم البدو والجاهلية إلي عالم الرقي والحضارة التي اغترفت منها سائر الأمم. وقد كان القرآن الكريم المصدر الأساسي الذي بعث هذه القيم وحرص الرسول علي تطبيقها قولاً وعملاً وغرسها في قلوب أتباعه. فها هو صلي الله عليه وسلم يستجيب لرأي سلمان الفارس بحفر خندق طول المدينةالمنورة لحمايتها من أولئك الأحزاب الذين جاءوا لغزوها وتحقيقاً لمبدأ العدل وحسن الإدارة ثم تقسيم العمل بين الصحابة في إنشاء هذا الخندق. وكان للرسول نصيب في هذا العمل. لم يقف بعيداً أو يجلس في مقامه وإنما تقدم للعمل شأنه شأن أي فرد. هكذا تكون القيادة وهكذا تكون القيم الأخلاقية وتطبيق العدالة بأسمي صورها ولم يقتصر الأمر علي ذلك فقط وإنما كان الرسول هو القوة التي تتقدم لإزالة أي عقبة تعترض أي صحابي من المشاركين في الحفر. وهنا يتقدم الرسول ويتولي إزالتها وقد نقلت كتب السيرة "أن أحد الصحابة اعترضته صخرة واستعصت علي الجميع وعندما أخبروا الرسول توجه إلي موقع الصخرة وتمكن من تهشيمها وسط صيحات الصحابة بالتهليل والتكبير. هذه مبادئ الإسلام الخالدة أبد الدهر. وفي غزوة بدر تجلت قيم العدالة بأسمي صورها. فقد استطاع جيش المسلمين في أسر عدد من المشركين ورؤساء قريش ومن بينهم العباس عم النبي صلي الله عليه وسلم وقام الجنود بشد وثاقه كسائر الأسري. وكان العباس يتألم لدرجة أن أنينه قد أثار قلق الرسول لدرجة أنه صلي الله عليه وسلم لم ينم في تلك الليلة فسأله الصحابة: ما الذي أدي لسهرك يا نبي الله؟ يجيب قائلاً: أسهر لانين العباس إنها صلة الدم والقربي. لكنه لم يرد أن يختص عمه بأي شيء دون باقي الأسري. ولذلك قام أحد الصحابة من تلقاء نفسه بتخفيف وثاق العباس. وبالتالي لم يسمع الرسول أنينه بعد ذلك. وقال متسائلاً: لماذا لم أسمع أنين العباس فأخبره الرجل بما فعل. في التو واللحظة قال له الرسول: افعل مثل ما فعلت بالعباس مع باقي الأسري ولم يشأ أن يختص عمه بأي أمر لم يتم تعميمه علي الآخرين. تلك هي أخلاق الإسلام وقيمه الخالدة وقد استطاعت الحضارة الإسلامية أن تقدم للعالم حضارة تعتمد علي العدل والمساواة بين سائر البشر. وقد اغترف الغرب من هذه الحضارة وتلك القيم ولم يستطع الغرب تشويه هذه المعالم أو إخفاء محاسنها. وقائع التاريخ وأحداثه كانت أبلغ رد علي افتراءات هؤلاء وأباطيلهم "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون". إن قيم الإسلام وأسلوبه الذي حددت معالمه الآية الكريمة "ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" ولن يستطيع المتطرفون والمتشددون أن ينالوا من هذه الصروح الشامخة وسوف تتهاوي دعوات التطرف ولا يحيق المكر السييء إلا بأهله" والله من وراء القصد.