لم تغب عني تلك الأيام العصيبة التي كنت أستقل فيها الاتوبيس العام في طريقي إلي مدرستي الثانوية الفنية وليس معي سوي جنيه واحد.. معظمه يذهب علي تذاكر الاتوبيس وما يتبقي اشتري به كوباً من الشاي ليحمي رأسي من الصداع الذي يلازمها حيث يمضي بي اليوم الدراسي دون أن أضع شيئاً في فمي!! ظروف فرضتها علي ّ حالة الفقر التي استقرت في جسد أسرتي البائسة منذ أقعد المرض أبي ليترك مهنته كسائق حر وتلقي المسئولية كاملة علي كاهل أمي المسكينة.. فأنا من بين خمسة أشقاء ولدان وثلاث بنات.. ومعظمهم توقف في دراسته عند الاعدادية باستثنائي فقد حصلت علي الدبلوم المتوسط ولا أتذكر منذ أن أصاب "الكبد" أبي وأقعده عن العمل أن تحمل شقيقاي المسئولية بل انشغل كل منهما بحاله فتزوج أحدهما والأخر ينتظر!! سلبيتهما دفعت بأمي إلي العمل من منازلهم في بيع الحبوب لكن ما تأتي به قليل والمعاش الذي تقرر لأبي من الضمان الاجتماعي لا يتجاوز 200 جنيه.. هنا قررت قهر "الفقر" وكانت البداية وأنا طالبة في الثانوي الفني حين شجعتني زميلة في مثل ظروفي بالعمل في منزل احدي المدرسات التي كنت أحبها وأحب مادتها "اللغة الانجليزية"!.. وهو الأمر الذي أغضب أمي مني فثارت ضدي ثورة عارمة ولم تهدأ إلا بعد أن اطمأنت انني أعمل عند مربية فاضلة لن تقسو عليّ أو تظلمني. لكن بمجرد إنتهائي من الدراسة وحصولي علي الدبلوم فوجئت بأمي توافق علي خطبتي من شاب يعمل جزاراً.. لم تكن المشكلة في مهنته بالطبع إنما في طباعه الحادة لذلك أصررت علي فسخ الخطبة وقررت النزول للعمل لأشارك والدتي أعباء المعيشة وأوفر لنفسي ما أحتاجه حينما يأتي موعدي مع الزواج. ولا تتعجبي لو علمت أنني تنقلت خلال سبع سنوات منذ تاريخ حصولي علي الدبلوم بين عشرات الأماكن وأن المهنة الوحيدة التي كنت فيها أكثر استقراراً هي "الخدمة في البيوت" بخلاف أعمال أخري رفضت الاستمرار فيها حيث كان المقابل التنازل عن إحتشامي من أجل إرضاء صاحب العمل!! وهو ما عوضني عند الله سريعاً حينما وجدت وظيفة شاغرة بمحل للحلويات وفيه تقابلت بالانسان الذي ارتاح قلبي له.. فهو دمث الخلق كريم لذلك قبلت الزواج منه.. وكان أول اختبار مني له حينما عرضت عليه النزول للعمل لا من أجل مشاركته أعباء الحياه -خاصة بعد قدوم أول مولود لنا -ولكن لأتفرغ لشقيقتي الوسطي التي تمت خطبتها وحان وقت جهازها.. شقيقتي التي ما كان لها أن تخرج للعمل مثلي فهي تعاني منذ طفولتها من عيب خلقي بالعظام فيمنعها من بذل أي مجهود.. أما أمي فلا أستطيع التخلي عنها خاصة بعد الجراحة الدقيقة التي خضعت لها مؤخراً لاستئصال أحد الأورام. تصوري.. زوجي الجميل لم يعارضني بل رحب وبارك خطواتي لأنزل العمل من جديد من أجل جهاز شقيقتي الحبيبة الذي انتهيت من شرائه كله وستكتمل فرحتي بها بعد أيام حيث ستنتقل إلي بيت زوجها معززة مكرمة لا ينقصها شيء. .. لقد وجدت في تجربتي ما يمكن إهداؤه لقرائك خاصة الفتيات اللاتي ينشأن في أسر فقيرة فعليهن ألا يخضعن للظروف بل أن يعملن علي تغييرها متمسكين بالأخلاق الحميدة.. فلن يستطيع الانسان منا أن يغير واقعه سوي بالعمل فلولا ه لعشت جارية ذليلة في بيت رجل لا يرحم. ولولاه ما قهرت الفقر وما أسعدت أمي وشقيقتي.. و.. وما تقابلت بزوجي الذي يدرك معني المسئولية وصلة الأرحام حتي لو علي حساب راحته وبيته وهو ما أفتقده كثيراً في شقيقيَّ اللذين ارتضيا كل منهما فلم يحركهما مرض أبي ساكنا.. ولم يرقا لحال أمي التي أعياها المرض والمسئولين.. فشكراً لزوجي الحبيب.. وهنيئاً لي.. أ. م. أ الجيزة. * المحررة: لكي أن تهنأي يا طاردة الفقر وتسعدي بكفاحك فكم اجتزت من صعاب ما كان لك من إجتيازها لولا تسلحك بالايمان والسلوك القديم. لم تتأففي من الخدمة في البيوت يا حاملة الدبلوم واستطعت أن تجبري الناس علي احترامك. ولم تسمحي للفقر أن يُزوجك من رجل ترفضين طباعه.. وتحملت في سبيل ذلك ما تحملت حتي تحقق حلمك بالزواج من الرجل الجميل علي حد وصفك والذي كان هدية السماء لك علي حسن صنيعك بأبويك وبشقيقتك الوسطي فلم تتخل عنها رغم حياتك الجديدة وأعبائها وكان عرضك الشجاع علي زوجك بالسماح لك بالنزول للعمل من أجل شقيقتك.. بالونة اختبار استطاع شريك حياتك أن يجتازها بسلام ليثبت لك أنه عند ثقتك به. عزيزتي.. إنتصارك علي الفقر رسالة لكل يائس: في يدك الكثير لتغير واقعك فقط عليك العمل ثم العمل.. عليك أن تتذكر المقولة الخالدة للامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"..