من غير المعقول أن تصل حساسية البعض عندنا من "المد الشيعي" إلي الخوف من بضع عشرات أو مئات أو ألوف من السياح الإيرانيين.. وأن يكون هؤلاء السياح سبباً في إحياء الفزاعة الإيرانية "أو الشيعية" التي زرعتها أمريكا وإسرائيل في نفوسنا علي مدي سنوات طوال.. منذ اشتعال الثورة في إيران عام ..1979 وكنا نتصور أن ثورة يناير المجيدة قد أسقطت هذه الفزاعة كما أسقطت فزاعات كثيرة. من حق بعض الإخوة السلفيين أن يتخذوا موقفا متشددا من المذهب الشيعي وأتباعه.. لكن العلاقات بين الدول والشعوب لايحكمها التوافق المذهبي أو الديني.. وإنما تحكمها المصالح المشتركة والتوازن الاستراتيجي وضرورات الأمن القومي. ومصر لها خصوصيتها الدينية والثقافية الضاربة بجذورها في التاريخ والجغرافيا.. ومن المستحيل تغييرها أو تطويعها.. ومع ذلك يجري تخويفنا من كل من حولنا.. إذا اتجهنا إلي السعودية الشقيقة علت الأصوات تحذرنا من المذهب الوهابي.. واذا توافقنا مع قطر صرخت الحناجر بصفقة بيع قناة السويس وتأجير الأهرامات.. وفي الشرق حماس وميليشياتها التي تسيطر علي سيناء.. وفي الجنوب السودان المتطرف.. وحتي إذا اتجهنا لتركيا تم استدعاء الفزاعة العثمانية لتخويفنا. كأنما المطلوب أن تظل مصر أسيرة للقفص الحديدي الذي تعيش فيه.. وهو صناعة أمريكية صهيونية.. علي أمل أن تظل كذلك وحيدة معزولة عن عالميها العربي والإسلامي.. وليس لها حليف إلا إسرائيل. في نهاية مارس الماضي عقد في اسرائيل مؤتمر هرتزيليا الثالث عشر الذي يحدد استراتيجية اسرائيل كل عام.. وطبقا لما نشرته "المصري اليوم" أمس فإن التقرير الذي أصدره المؤتمر ركز علي "ضرورة تكريس الصراع السني الشيعي من خلال السعي في تشكيل محور سني من دول المنطقة" أساسه دول الخليج ومصر وتركيا والأردن ليكون حليفا لاسرائيل والولايات المتحدة في مقابل محور الشر الذي تقوده إيران. والذي سيكون بحسب التقسيم محوراً للشيعة. وإذا كنا نلتمس العذر لإخواننا السلفيين المتخوفين من "المد الشيعي" فإننا لا نجد عذراً مقبولا لبعض السياسيين الذين دفعهم الاستقطاب الفكري والسياسي الحالي إلي التورط في هذه "الفوبيا" والتخلي عن الدور التنويري المنوط بهم.. ولا نجد عذرا لبعض الرموز التي لاذت بالصمت إيثارا للسلامة وهم يرون المتظاهرين أمام بيت القائم بالأعمال الإيراني في القاهرة اعتراضاً علي مجيء السياح الإيرانيين.. بينما تساءل هشام زعزوع وزير السياحة هل السياحة الإيرانية حلال علي دول الخليج وحرام علي مصر؟! في منتصف العام الماضي أثيرت الفزاعة الإيرانية في الحملات الانتخابية للرئاسة.. وساعتها قال الدكتور محمد سليم العوا المرشح الرئاسي أنه سيقف مع إيران إذا دخلت في حرب مع إسرائيل.. وواجه الرجل اتهامات صريحة بأنه شيعي.. واضطر وهو العالم والمفكر الجليل أن يدافع عن نفسه ويشرح مبررات رؤيته المتوازنة تجاه إيران "الشقيقة والصديقة". وساعتها قال أيضا السيد عمرو موسي المرشح الرئاسي بأنه من الضروري إقامة علاقات قوية مع إيران وتركيا لدواعي حماية الأمن القومي المصري والعربي.. وقال الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح المرشح الرئاسي إنه سيعمل علي إعادة العلاقات مع إيران. الآن اختلف الوضع.. فلم نسمع أو نقرأ كلاما لمن ينتصرون لعودة العلاقات مع إيران.. علي العكس اتخذ البعض موقفا معاديا.. ليس رفضا لإيران ولكن ربما كراهية في الإخوان والدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية. أوضح مثال علي ذلك نشرته "الجمهورية" أمس في تصريح لإيهاب رمزي نائب رئيس حزب المؤتمر الذي يرأسه عمرو موسي قال فيه ان جماعة الاخوان تستخدم إيران لقمع أمور كثيرة في البلاد من أجل تحقيق أهدافها.. واضاف ان الايرانيين قد يعمدون الي نشر المد الشيعي في مصر. هل يستسيغ العقل أن تكون عقيدة المصريين هشة الي هذا الحد.. وأن تكون قابلية مصر للغزو الفكري والديني بهذا الضعف.. مع أن مصر استعصت علي كل المستعمرين سياسيا وفكريا.. بل إنها غيرت هؤلاء المستعمرين ومصرتهم ولم تستجب لأفكارهم. وهل يستسيغ العقل ان تقيم مصر علاقات دبلوماسية كاملة مع اسرائيل العدو الأول والاستراتيجي وتقطع علاقاتها مع إيران؟!.. وهل يستسيغ العقل أن تكون مصر ثالثة ثلاث دول فقط في هذا العالم كله لا تقيم علاقات مع إيران.. ولا يسبقها في ذلك إلا إسرائيل وأمريكا؟! إن إيران "الشيعية" هي الشريك التجاري الأكبر والأهم لدولة الإمارات العربية رغم النزاع القائم بينهما حول الجزر الثلاث في الخليج.. ولكل من البلدين سفير نشط لدي الدولة الأخري وتجار ومستثمرون.. وحركة السفر مفتوحة طوال أيام السنة لمواطني البلدين.. كما أن إيران تحتفظ بعلاقات تاريخية وتجارية وثيقة مع البحرين والسعودية والكويت وعمان والعراق منذ عهد الشاه.. ولم تتأثر هذه العلاقات بالنزاعات التي تنشأ بين الجانبين. كما أن إيران "الشيعية" ليست وليدة اليوم.. ولسنا في موضع المفاجأة بمذهبها الشيعي حتي نخاف من أن يهدد مذهبنا السني.. فقد كانت إيران شيعية عندما احتفت مصر في زمن عبدالناصر برئيس وزرائها الوطني محمد مصدق صاحب أول تجربة في تأميم البترول.. وكانت إيران شيعية عندما أقام السادات علاقات وثيقة مع الشاه رضا بهلوي قبل سقوطه.. وكانت إيران شيعية عندما تزوج الشاه الأميرة فوزية "السنية" شقيقة الملك فاروق. وكانت إيران شيعية عندما اعترف الأزهر الشريف بالمذهب الشيعي الجعفري "الإثنا عشري" كأحد المذاهب المعتمدة للعبادة في مصر.. وقاد تيارا قويا للتقريب بين المذاهب الإسلامية علي أساس أن الشيعة ينطقون بشهادتنا ويتعبدون بقرآننا ويصلون إلي قبلتنا ويحجون إلي الكعبة التي نحج إليها. وسوف تظل إيران شيعية سواء أقمنا معها علاقات أم لا.. لكن الحقيقة التي يجب أن نتنبه إليها أننا في حاجة إلي علاقات قوية مع إيران مثلما نحن في حاجة إلي علاقات قوية مع تركيا وتشاد وجنوب السودان وكل جيراننا.. وتوازن القوي في منطقتنا يدفعنا إلي ذلك دفعا حتي ونحن في خلاف سياسي أو مذهبي مع أي من هذه الدول.. ومن ثم علينا أن نغير رأينا وننظر الي القضية نظرة أعمق وأوسع. أعرف أنني أضع نفسي في مواجهة العاصفة.. وربما يلاحقني اتهام من هنا أو هناك.. لكن لابأس.. حسبي أنني قلت شهادة الصدق وما اعتقد أنه الصواب من أجل وطني ومن أجل ديني.. والله من وراء القصد وهو سبحانه يهدي الي سواء السبيل. إشارات * يبدو أن حديث المؤامرات "المزعومة" لن ينتهي.. بالأمس كانت هناك مؤامرة ضد الفريق السيسي واليوم هناك مؤامرة ضد شيخ الأزهر.. والله شبعنا مؤامرات. * لعل حريق محكمة جنوبالقاهرة يرد علي الذين يرفضون فكرة "الدولة العميقة". * المصريون قاموا بثورة رائعة.. وفي أقل من سنتين تعلو أصوات تطالب بالعودة إلي ما كنا عليه قبل الثورة.. هل نحن شعب طيب.. أم مضحوك عليه.. أم شعب دمه خفيف؟!