مجموعة من الأفلام السينمائية الرائعة معروضة حالياً في القاهرة. لتقدم للمتفرج المصري شهادة لا تقبل النقض عن التطور المذهل الذي وصلت إليه القدرة التعبيرية لوسيط الفيلم. لا أعني التطور التكنولوجي الذي يظهر من خلال هذه الأفلام نفسها وإنما أيضا مستويات الإبداع البصري والتألق الفكري والأصالة الموضوعية التي لن يكن من المتصور بلوغها. بعض هذه الأعمال يحتل القائمة المرشحة للأوسكار "2013" ومنها "البؤساء" و"حياة باي".. والعملان يعتمدان علي أعمال أدبية بما يعني التزاوج الأبدي بين الرواية والفيلم. إنه زواج كاثوليكي. الانفصال فيه حرام شرعاً. والعملان يستخدمان عناصر الحكي من صورة وصوت وموسيقي ومؤثرات ووسائل للعرض تجعل المستحيل ممكناً في مجال الحكي القصصي مهما بلغ من التعقيد والصعوبة عملياً وذهنياً. هذه الأفلام تجسد أيضا شهادة صادمة لا تكف عن ملاحقتنا عن حجم التخلف الذي تغرق فيه سينمانا. وحجم الانحطاط في أساليب الترفيه والتعبير الفني والفكري في بلادنا. أيضا حجم الادعاء لدي بعض من يتصورون أنهم صُناع للسينما جديرون بالاحترام مثلاً.. ومنذ فترة ونحن كمتفرجين نفاجأ بالتدني والسوقية والبلادة الفنية والخمول الفكري أتعجب كثيراً عندما تتابع مخرج عديم المرجعية تجاوز الستين وقائمة أعماله لا تتجاوز أصابع اليد وأفضلها بائس فنياً إذا ما قورن بأي عمل في صناعة متقدمة. ومع ذلك يحكي عن أمجاده. وقد أعماه الغرور والنفخة الكدابة وضللت الشهادة التي حصل عليها عن أن يري مستواه الحقيقي لأنه في حقيقة الأمر لا يشاهد الإنتاج السينمائي. ولم يحاول أن يطور فنه أو يقيم أعماله ومثل هذا النموذج الأجوف منتشر وسوف يزداد انتشاراً مع تزايد سيادة الانحطاط الثقافي والفني والذوقي ومع موجات الردة المروعة والفارق بين هؤلاء المخرجين "الحوف" وبين مخرج آسيوي من نوع آنج لي الذي التقطته هوليوود ومولت أعماله هو نفسه الفارق بين درجة الانحطاط الفني عندنا وبين مستوي التقدم عندهم.. التقدم الذي يطول كل شيء. بدءاً من البيئة الثقافية مروراً بالمناخ الفني فضلاً عن المستوي الحضاري والعلمي فكل بيئة تنضح بما فيها.. التنمية الثقافية عندما مجرد لافتات بلا مضمون. الهروب الجميل فيلم "حياة باي" Life of pi عمل فريد الجمال والتميز مأخوذ عن رواية بنفس الاسم للروائي يان رمارتل ظهرت في سلسلة الروايات الأكثر مبيعاً عام ..2001 قرأها الملايين عبر العالم والآن يشاهد الفيلم ملايين وهم بالقطع متشوقون لمشاهدة الترجمة البصرية لهذا العمل الروائي الذي يفترض أنه يمثل تحدياً كبيراً لمن يتصدي لهذه المهنة. وقد نجح آنج لي في اجتياز هذا التحدي وأثبت مرة أخري أنه صانع مبدع وشديد الرقي. وقادر علي تحقيق قدر وافي من البهجة لعشاق السينما. سبق أن شاهدنا له فيلم "النمر المتحفز والتنين المتخفي". يحملك الفيلم وسط مغامرة ساحرة. وخيال روائي جامح ومستوي بصري مذهل احتاج من المخرج حرفية وإمكانيات تكنولوجية متطورة لتحويل المادة الرديئة المقروءة إلي مشاهد مرئية بنفس الخيال والثراء الروحي والمتعة الذهنية. الصراع من أجل البقاء علي الحياة يحتاج إلي الأسلحة الروحية التي شحذها "باي" في مواجهة مشاعر الخوف والوحدة والجوع وهجوم البحر وغياب أي أمل لاستمرار الحياة. وبطل الفيلم شاب هندي يبدأ الفيلم وهو يروي قصة حياته ومغامراته الفريدة لكاتب فرنسي كندي يسجلها الفيلم.. إذن عودة إلي الوراء "فلاش باك".. سرد لحياة هذا الشاب وهو مازال طفلاً في الخامسة ثم صبياً وحتي ذروة الشباب وبلوغه مرحلة النضوج. المراحل الثلاث لحياة "باي" يؤديها ثلاثة ممثلين علي درجة عالية جداً من الاتقان والاقناع. المرحلة المتوسطة التي تأتي بعد العاصفة وغرق السفينة التي كانت تقل أسرة "باي".. إلي كندا. فقدان البطل لأسرته وصراعه مع باقي الحيوانات التي كتبت لها النجاة وعلاقة الصداقة التي جمعته "باي" مع النمر العملاق ريتشارد باركر. جميع مشاهد هذا الجزء من الرواية تشكل المناطق الأكثر روعة والأكثر جمالاً من حيث التصوير والموسيقي وأيضا في كشفها لأبعاد أكثر عمقاً في شخصية البطل حيث تصل المحنة إلي أقصي ما يمكن أن تولده من حيرة وألم وبحث عن خلاص وعن ماء صالح للشرب وعن مأكل.. وعن لحوم للحيوان الذي إذا ما جاع يأكل صديقه. مشاعر الخوف والترقب والدهشة والتفكير وتأمل سحر البحر وجبروته ولون المياه وتضاريس الموج المرتفع والعاصفة.. إلخ.. إلخ.. هذه كلها تنتقل بتأثيرها القوي إلي المتفرج.. مشاهد لم يسبق حضورها علي الشاشة بكل هذا التجسيد وبالذات مشاهد "الجزيرة". ومنذ الطفولة تظهر شخصية "باي باتل" كولد نابه حاد الذكاء. متأمل ومتسامح بالفطرة.. يري أن "الرب" واحد وان تعددت طرق التواصل معه. يصيب والده غير المتدين بالحيرة عندما يراه يخلط أثناء الصلاة بين شعائر الإسلام والمسيحية رغم أن الأسرة هندوسية وهو نفسه يؤمن بالإله الهندوسي ويتضرع إليه أثناء رحلته. وأسرة "باي" هندية ثرية والده يمتلك حديقة للحيوانات في إحدي المقاطعات وله شقيقه يكبره وأم مودرن.. الجزء الأول من الفيلم يصور هذه الأجواء ويرسم شخصية بطله بفطنة. علاقة "باي" بالحيوانات يصورها الفيلم ونستقبلها نحن كإحدي الحواديت البديعة والجذابة يتكشف من خلالها التفاصيل التي تؤكد براعة التكنولوجيا التي أنتجت هذه الحيوانات وحركتها وجعلتها تصارع بدورها من أجل البقاء بعد ارتطام السفينة وغرقها. وشخصية النمر ريتشارد باركر تبدو حقيقية جداً جذابة ومقنعة فهو حيوان فعلاً ولكن بروح يمكن التواصل معها. إنه بكلام "باي" لا يمكن استئناسه ولكن بفضل الله يمكن ترويضه.. وقد حاول بالفعل أن ينجز هذه المهمة. الرحلة إلي كندا عندما يقرر والد "باي" الانتقال إلي كندا. ويستأجر سفينة شحن ضخمة تحمله مع أسرته وحيوانات الحديقة التي يملكها تهب أثناء الرحلة عاصفة رهيبة. تهلك السفينة والأسرة. وينجو باي والحمار الوحشي والأسد ريتشارد باركر والقرد والسلعوة.. الجميع يصارع الأنواء. لا يبقي سوي قارب النجاة فيصبح هو المرفأ الوحيد الباقي وسط المحيط الشاسع والأمواج العالية وعواصف تدفع بالقارب إلي المجهول. وبعد أن يموت الحمار والقرد والسلعوة لم يعد من رفيق سوي "النمر" وبطل الفيلم.. الأول يعيش علي أكل اللحوم والثاني نباتي بينما مصادر الطعام معدومة والبقاء هكذا من الأمور المستحيلة وكذلك الإفلات من الغرق. لا يبقي أمام باي وسط هذا كله سوي إيمانه الروحي. صلابته الجثمانية. ذكائه وقدرته علي خلق علاقة إنسانية مع هذا النمر البنغالي العملاق فالرسائل المتضمنة في هذا العمل عديدة وإيصالها يتم برهافة وطرافة. فالأسماك هي اللحوم الوحيدة التي يكن أن يجود بها البحر للنمر ولابد من وسيلة للإمساك بها.. وحين ينجح "باي" في اصطياد سمكة وقتلها تسيل دموعه بينما يشكر الإله الذي تجسد في السمكة حتي يمنحه حياة. في الفيلم يظهر الرب الهندوسي وسط التلال البعيدة وفي أجزاء من الفيلم كطيف بعيد مما يعني أن البعد الديني كان حاضراً في ذهن المؤلف والمبدع السينمائي كأحد عناصر الخلاص للإنسان. تنفيذ بارع من المشاهد الرائعة التنفيذ. أسراب الأسماك الطائرة فوق مياه المحيط التي ترتطم بالقارب وتهاجم "باي" ويلتقطها الأسد ريتشارد باركر.. وأيضا مشاهد الحيوانات الغريبة التي تظهر في جماعات علي الجزيرة التي يرسو أمامها باي والأسد. والتكوينات الطبيعية ويشاهد الأدغال التي ينجذب لها الأسد ويقرر الرحيل دون أن يلتفت إلي صديقه. الأمر الذي يعبر عنه "باي" بتأثر حين يستعيد الحكاية مع الكاتب الذي يزور بأي ويدون قصة حياته. مشهد البداية والنهاية في فيلم "حياة باي" يتم داخل منزل باي بعد أن تزوج وأنجب. وهي ليست أقوي أجزاء الفيلم من حيث الجاذبية وإنما تمثل أجزاء عضوية في بناء السيناريو. لعب دور باي "الرجل" عرفان خان النجم الهندي المشهور وفي الفيلم يظهر الممثل الفرنسي الكبير جيرار ديبراديو في دور "الطاهي" علي ظهر السفينة وهو دور صغير ولكنه رائع أولاً من حيث الأداء ومن حيث الدلالة الفنية. وهنا أشير إلي الدقة والتدقيق في اختيار طاقم الممثلين بغض النظر عن حجم الدور. هذه الدقة الفنية تظهر أيضا في اختيار الممثلين اللذين قاما بدور موظفي شركة التأمين اليابانية اللذين التقيا ب "باي" بعد نجاته وأثناء علاجه من تداعيات المغامرة الصعبة التي عاشها. من العناصر المذهلة أيضا عنصر التصوير "كلاوديو ميراندا" وبراعة المشاهد ونقاء الألوان. والتدرج الغريب في درجاته بالنسبة للأمواج وتموجات البحر. وأيضا عنصر الموسيقي. فيلم آنج لي يتسم إلي جانب ذلك كله بروح شفافة. ولمسات شاعرية. وعمق روحي واحتفاء بقيمة الحياة. إنه بلا شك من الأعمال البديعة والمبهجة التي من الممكن أن تكتسح جوائز الأوسكار هذه السنة.