عن رواية «حياة باى» الحائزة على جائزة البوكر عام 2002 للكاتب يان مارتل، حقق المخرج التايوانى القدير المقيم بأمريكا «إنج لى» فيلماً بنفس العنوان، وفيه نتابع رحلة حياة «باى مارتل» ابن الأسرة الهندية الهندوسية من الطفولة إلى الشباب، وكتب السيناريو «ديفيد ماجى» الذى اختار أن يبدأ من النهاية حيث يحكى الشاب لأحد الروائيين قصته ونتابع معهما -عبر الفلاش باك- تلك الرحلة التى بدأت مُغْرقةً فى الواقعية ثم تحولت تدريجياً إلى ما يشبه الرحلات الأسطورية أو رحلات السندباد البحرى فى ألف ليلة وليلة، تلك التى نعرف مسبقاً أن بطلها قد تخطّى كل الصعاب وعاد سالماً غانماً يحكى لنا بأسلوب آسر مشوِّق تفاصيل تلك الرحلة. من البداية، يلفت الفيلم انتباهنا لتلك المسحة الصوفية العفوية لدى «باى» الطفل النباتى المتَّبع لتعاليم «كريشنا» إله الهندوس الذى عرف الله عن طريقه، وإيمانه بالسيد المسيح الذى أحب الله فى صورته، ثم تعرف على الإسلام وأقام الصلاة، فمنحت روحه السكينة والطمأنينة، أفق رحب تلمّسه الصبى بفطرته دون إحساس بأى تناقض، وحين نبهه أبوه أن المرء لا يمكن أن يسير فى ثلاثة دروب مرَّة واحدة، أجابه الفتى بيقين وثقة: إننى فقط أريد أن أحب الله! بسبب رغبته فى أن يؤمن مستقبلاً أفضل لأسرته، قرر والد باى إغلاق حديقة الحيوانات التى يملكها والهجرة إلى كندا مع زوجته وولديه، باى وراڤى مصطحباً الحيوانات كى يبيعها هناك؛ لكن الرياح العاتية تأتى دائماً بما لا تشتهى السفن، أو ركابها فحوّلت السفينة التى استقلوها إلى حُطام لم ينجُ منه سوى «باى» الذى يجد نفسه مع أربعة حيوانات، قردة وحمار وحشى وضبع ونمر بنغالى ضخم، فى قارب نجاة وسط الأمواج الهادرة، وما لبث أن صار الفتى وحيداً فى مواجهة النمر المتوحش بعد أن التهم الضبع القرد والحمار الوحشى، ثم التهم النمر، الضبع لينفرد بالصبى وتبدأ المواجهة بينهما خلال الرحلة التى استمرت 227 يوماً فى عرض المحيط ليقدمها إنج لى فى ساعتين بأُسلوب سينمائى مبهر وعبر تقنية 3D. صبى فى الرابعة عشرة ونمر مفترس على سطح قارب صغير فى عرض البحر الذى يحوّله الفيلم -أى البحر- إلى شخصية درامية مشاركة ومحركة للأحداث -ربما نجد فيها أصداء رائعة هيمنجواى «العجوز والبحر»- فالمحيط هنا بمياهه الهادئة الحنون أو أمواجه الهادرة المجنونة قرين الحياة ذاتها التى نكابدها بتقلباتها ونواجه صعاباً قد تكون اختباراً لإيماننا وإيمان باى الذى رأى الله فى رحلته وآمن بقدرته وأنه هو من كتب له النجاة. مئات التفاصيل شكلت ملامح رحلة باى وإصراره على البقاء حياً رغم النمر المتربص وإدراكه أن مصيرهما مشترك وأن عليهما أن يتعايشا ومن ثم ينجح فى ترويضه حتى صارا صديقين! ثمانية أشهر إلّا قليلاً، أدار فيها الفيلم الصراع بين مكونات الحياة -الماء والبشر والحيوان- وقدم فيها إنج لى صورة مدهشة أنجزها مدير التصوير البارع «كلاوديو ميراندا» بكاميراه اليقظة فوق وتحت الماء متعاوناً مع طاقم فنانى المؤثرات البصرية المبهر الذى ساهم بقدر وافر فى تنفيذ رؤية الإخراج، متكاملاً مع مونتاج «تيم سكويرز» الذى استلهم إيقاع الموج حين يتسارع ثم يهدأ ليعود لاهثاً من جديد، وموسيقى «مايكل دانا» التى تهمس أحياناً وتصخَب أحياناً أخرى، تعلو هادرة فوق صوت الأمواج، وتنسحب حزينة محملة بالأسى كزبد البحر، تضيف لكل صورة بعداً جديداً يشكل معنىً مختلفاً، تتعانق تارة مع صوت البحر وتطارد مَوْجَة تارة ثانية، متناغمة مع باقى العناصر الفنية، فى ملحمة سينمائية ساحرة تحمل رؤية فكرية عميقة ورحبة للحياة الروحية للإنسان. فى نهاية اللقاء مع الروائى، يتذكر باى أنه بعد نجاته، حضر إليه مندوبان من الشركة صاحبة السفينة الغارقة ليستفسرا عمّا حدث له وسبب غرق السفينة.. حكى لهما باى ما قصَّه علينا وعلى المؤلف لكنهما طلبا منه حكاية يمكن أن يصدِّقاها وتُقنع الشركة، فيروى لهم حكايةً أخرى دموية يلعب فيها دور النمر ويلعب فيها طباخ السفينة الفظ دور الضبع وبحَّار فى دور الحمار الوحشى وتلعب أم باى دور القردة ويقرر باى أنه قتل الطباخ الذى سبق أن ألقى بالبحار والأم فى البحر كطعم للسمك! ثم سأل باى الكاتب أى الروايتين يُصدِّق؟ فأجاب الأولى بالقطع.. هنا هتف باى: الله! وقد يقصد أن الله فى جانب الإيمان بالقدر والمشيئة، ومعنى الحياة.. حياتنا وحياة باى، وفى النهاية.. . أمامك الحكايتان -أو الطريقان- فاختر أنت ما تراه صواباً!