تمضي الأيام وتتوالي السنوات ويظل حادث الهجرة من مكة إلي المدينة شاهداً علي عظمة هذه الذكري التي تظل أيضا نبعاً يغترف كل من أراد أن ينتصر علي العقبات التي تفرض سيرة حياته. ورغم مرور أربعة عشر قرناً وأربعة وثلاثون عاماً فإن زخم هجرة المسلمين لا ينضب معينه من شتي الدروس المستفادة ونموذجاً للقادة والمصلحين في كل شئون الحياة الاجتماعية والحربية والسياسية والاقتصادية والتخطيطية وغير ذلك من مختلف الأغراض وشتي الاتجاهات. هذه الهجرة لم تكن هروباً من ساحة المواجهة مع المشركين في أم القري. كما يزعم بعض المغرضين الذين يحاولون تشويه هذا العمل الذي غير وجه تاريخ هذه الأمة العربية من جبروت وظلم الجاهلية إلي نور النهضة والحياة الآمنة المستقرة. فقد كان هذا العمل من جانب رسول الله سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم يستهدف بناء وإنشاء مجتمع علي دعائم الحق والعدل في ظل علاقات بدأت في رحاب البيت العتيق. حيث التقي رسول الله مع وفود من أهل يثرب "المدينةالمنورة" في بيعتين متعاقبتين. وأثمرت اتفاقات تضمن الأمن والحياة الطيبة للرسول الكريم. وكل من يأتي إلي بلادهم من أصحاب هذا النبي. ليس هذا فحسب وإنما طلبوا من النبي أن يضع بين أيديهم كل ما يريده منهم بلا أي تحفظات. كما أبدوا رغبة تتضمن شرطاً واحداً هو أنه إذا تحقق له النصر أن يظل بينهم ولا يتركهم عائداً إلي دياره وأهله في مكة وشعابها.. وجاء رد رسول الله صلي الله عليه وسلم قاطعاً مؤكداً أنه سوف يظل بينهم دائماً. ولن يترك ديارهم أياً كانت ظروف حياته بينهم. وحتي بعد الانتقال للرفيق الأعلي. هذا الاتفاق تم إنجاز بنوده في مرحلة كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقاسي القهر والظلم من جانب المشركين من الذين عاش بينهم رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقد تكررت الحوارات نحو سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم. وكلها مسجلة في السيرة النبوية لعل من أهمها ما قام به أبوجهل في إلقاء مخلفات أحد الجمال فوق رأس الرسول في محاولة لقتله. ولم ينقذ المصطفي سوي ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها. وذلك علي سبيل المثال لا الحصر. كما امتد الإيذاء إلي أصحابه وأتباعه. وما جري لعمار بن ياسر ولبلال بن رباح وغير هؤلاء من المستضعفين من المسلمين الذين أقبلوا علي نصرة الحق التي جاء بها الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم. واجه الرسول هذه الصعاب والتحديات بالصبر وحسن الخلق من بين لوعات هذا الصبر أنه استقبل كل من اعترضوا طريقه بالسخرية والاستهزاء. وتسامي رسول الله صلي الله عليه وسلم بأخلاقه الكريمة وبكل رحابة الصدر في مواجهة من اتهموه مرة بالشاعر وأخري بالساحر. كما أنه ضيق الصدر لم يجعل رسول الله صلي الله عليه وسلم يتخلي عن هذه الأخلاق ويحتفظ بها في مكان أمين. وقد تجلي ذلك في كل مرة يأتيه جبريل أمين وحي السماء ويعرض عليه وسائل الانتقام من هؤلاء الذين آذوه هو وأتباعه من المستضعفين. وكان قوله صلي الله عليه وسلم في مواجهة هذا العرض: اللهم أهد قومي فأنهم لا يعلمون. دعهم يا أخي يا جبريل لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبدون الله. وبعد أن يستمع جبريل عليه السلام لنداء الرجاء: صدق من سماك الرءوف الرحيم "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم". لقد ظل رسول الله صلي الله عليه وسلم صامداً في مواجهة هذه الأعمال والشدائد لمدة 13 عاماً. وفي إطار تأسيس قوة في بلد يبعد عن مكة نحو 600 كيلو متر مع قوم توافدوا علي البلد الحرام في موسم الحج. فكانت المعاهدات واللقاءات التي اتسمت بالود والصفاء والإخلاص. وفي إطار البنود تم الإذن للمسلمين بمكة من الهجرة إلي أخوة لهم بهذه الأرض البعيدة في إطار اطمئنان الرسول لهؤلاء الرجال الذين اتفقوا معه علي الدم بالدم والهدم بالهدم. بمعني أنهم سوف يمنحون الرسول مما يمنحون منه نساءهم وأهليهم. وكل ما يملكونه مع الترحيب بمن يأتيهم من أصحابه.. الرسول كان كل همه بناء الرجال المخلصين قبل بناء الأوطان. في المدينةالمنورة تم بناء أكبر قوة من المهاجرين والأنصار في رحاب عقيدة قوية استقرت في الصدر وعزيمة قهرت كل ما في الصدور من كل نوازع الشر والاستئثار. وقد سجلت هذه المآخاة التي قام بها رسول الله صلي الله عليه وسلم بين هؤلاء الرجال أغلي صور الحب والتضامن وانصهرت فيه بوتقة هذا الفرد كل دوافع التملك والصفات التي عاشوا في ظلالها سنوات طويلة. سماحة سيد المرسلين كانت الصخرة التي تحطمت عليها كل المؤامرات التي نسجها له أعداؤه. ولعل آخرها التدبير لقتله بواسطة مجموعة من شباب القبائل. ولم تهتز عزيمة رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي تكونت قوة من المهاجرين والأنصار كانت نموذجاً وصرحاً لحماية دعوة الحق. وقد اكتملت فصول هذه القوة بانتقال الرسول إلي المدينةالمنورة. وهناك تكون المجتمع المسلم قوي الأركان تدعمه عزائم الذين صدقوا الله ما وعدوا الله عليه. ثم كانت قوة النصر التي تنامت وطارت الأخبار لأهل مكة لتخبرهم بأن من ضيقوا عليه قد استطاع بناء قوة لن يستطيعوا الوقوف في وجهها بأي حال من الأحوال. يكفي هذه الأحداث فخراً أن سجلها الله في آيات من القرآن الكريم "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" "8. 9" سورة الحشر.. كما جعل المهاجرين في قرية عالية. هذا الحادث الذي نحتفل هذه الأيام بذكراه هو الذي دفع أمير المؤمنين أبا حفص عمر بن الخطاب أن يتخذه تاريخاً لكل المواثيق والمكاتبات والرسائل التي في رحاب هذه الهجرة النبوية سوف يستطيع كل من أراد تحقيق النصر في مواجهة التحديات أن يتخذ هذا النموذج نبراساً يهتدي به لكي يجتاز العقبات التي تصادفه. وليت القادة والمصلحين يترسمون هذه الخطوات ويستلهمون من سيد الخلق حسن الخلق والصبر بلا حدود ويتحلون بتلك الصفات الطيبة في مسيرتهم. وليت دعاة هذه الأيام يستلهمون السماحة وسعة الصدر في نشر دعوة الحق والهداية بعيداً عن العنف والتشدد والتطرف. ولا شك أن النجاح سوف يكون حليف القادة والمصلحين إذا اتبعوا منهج رسول الله صلي الله عليه وسلم في حياتهم وكل شئونهم ومشروعاتهم. وكل هذا المنهج يضم مبادئ تفسح المجال أمام من يسترشد بها في نطاق هذه المبادئ وما تهتدي إليه عقولهم. إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.