أذكر أننى ناقشت هذه القضية الحيوية بالذات مع أصدقاء ومفكرين كثر ، وفى بداية إنطلاق الحالة الحزبية الإسلامية بعد الثورات وقد كنت مشاركاً ومسهماً فيها ناقشتها مع أستاذنا وصديقنا الكاتب الكبير السيد أبو داود وكانت رؤيته قريبة مما طرحته ، بضرورة المبادرة بتفكيك الحالة التنظيمية وحل الجماعات القائمة والتحول للحالة الحزبية والإندماج والذوبان فى المشهد المدنى ، وأذكر أننى كتبت يومها فى أحد المقالات رداً على سؤال حول القرار الأول الصائب لجماعة الإخوان بعد الوصول للحكم ؟ فقلت حل الجماعة نفسها بنفسها والتحول بالكلية للحالة الحزبية . وقد طرح أستاذنا السيد أبو داود فى كتابه " الإسلاميون والمستقبل " سؤالنا الذى طرحناه بمجرد الإشتباك مع الحالة الحزبية الإسلامية الوليدة فى أول طريق التغيير : إذا كان هناك جدوى ومبرر لوجود التنظيم فى عهد الإستبداد للضغط فى مسار التغيير فما جدواه وقد حدث التغيير ؟ ما جدوى وجود التنظيم الذى يشكل دولة داخل الدولة وقد وصل أناس من هذا التنظيم بالفعل إلى سدة الحكم والسلطة ؟ مع الوضع فى الإعتبار أن التنظيم حالة وكيان مهيئ للإستفزاز للسلاح كقوة أيدلوجية لا تتردد فى الدفاع عن نفسها إذا شعرت بإقتراب الحظر المحدق . وفى التاريخ شواهد فالجماعة الإسلامية لم تكن مسلحة فى البداية إنما دعوية وخيرية وإجتماعية وحركة سياسية سلمية إستفزت لحمل السلاح عندما شعرت بالخطر وأن النظام يسعى لتصفيتها ، كذلك الإخوان فى الخمسينات فالنظام الخاص كان تأسيسه طارئاً وليس أصيلاً فى الجماعة التى بدأت سلمية . التنظيم ليس صنماً يعبد من دون الله ولكنه مجرد فكرة وأسلوب وآلية مرحلية وأداة للعمل لخدمة الدين والشريعة ، فإذا جاءت مرحلة وتوفرت آلية أخرى وأسلوب آخر أكثر مشروعية وأماناً .. فهذا أفضل وأقوم ، ومرحلة الصعود والتغيير السياسى ومشاركة الإسلاميين فى المشهد السياسى والإجتماعى والثقافى بأحزاب ونشاط إجتماعى وثقافى لا يناسبها بقاء التنظيمات بصورتها التقليدية فالوضع إختلف ويتطلب العلنية والشفافية وتقديم الخبرات والإنحياز للمشتركات والقيم والأهداف العليا والثقة والتجانس والإنفتاح على الآخر .. إلخ وهى مطالب تعوقها التنظيمات بطبيعتها التى تعزل أفرادها عن المجتمع بأسوار عالية من الغموض والسرية ومساحات واسعة من تباين الأهداف والمقاصد . فضلاً عن أن وجود التنظيمات – كما يؤكد الأستاذ السيد أبو داود - إلى الوقوع فى أخطاء إستراتيجية كبيرة لازالت الحركة الإسلامية تعانى من آثارها إلى وقتنا هذا ؛ فمحاولة إغتيال عبد الناصر وما تبعها من مآس ومحن وفتك بآلاف من الإخوان وتشريد أسرهم ، وإغتيال السادات بالرغم من جهوده فى التقارب مع الإسلاميين بأن أقام جسوراً للتفاهم والتحاور مع الحركة الإسلامية بعد فترة كالحة عاشتها الحركة فى السجون فتهدمت جسور الثقة بين الدولة والحركة وحدث شرخ هائل فى جدار العلاقة بين الإثنين وهو الجدار المتهالك أصلاً .. فمراحل التغيير المفصلية خاصة فى الخمسينات مع نجاح الثورة وفى السبعينات مع الخروج من السجون وتدشين علاقة جديدة مع الدولة بمبادرة من رأسها ومرحلة الثورات الحديثة كانت فرصاً ثمينة لهذا التحول الإصلاحى الذى يخلص الحركة من أكثر وأخطر العوامل التى أعاقت حركتها وتطورها وإندماجها المجتمعى وإحرازها مكتسبات فعلية فى المشهد . المبادرة الرائعة التى تقدم بها أستاذنا المفكر الكبير الدكتور نصر عارف التى لم تأخذ نصيبها فى التداول والإنتشار والتى نشرها قبل فترة فى الأهرام ، وحاولتُ تسليط الضوء عليها أكثر من مرة ليراها الإسلاميون تناولت هذا الملف أيضاً ضمن بنود متوازنة وواقعية قابلة للتطبيق حيث تناسب المرحلة وتغير موازين القوى وتراعى المستجدات على الساحة المحلية والإقليمية ، وجاءت تحت عنوان " المصالحة الإجتماعية الآن وليس غداً " ، وتحدث فيها عن " نزع الشرعية عن جميع الجماعات الدينية بكل أشكالها وخلفياتها، فلا ينبغى أن تكون هناك حركة دينية تقدم نفسها على أنها النسخة الأصح من الإسلام، فلا يكون هناك شيء إسمه الدعوة السلفية أو الجماعة الإسلامية ، وكل من أراد أن يخدم المجتمع، أو ينشر الثقافة الدينية عليه أن ينشئ جمعية خيرية ، أو نادٍيا علمياً ، أو مركزا ثقافياً ، أو مركز أبحاث ، والمرجعية الدينية الوحيدة هى الأزهر الشريف بعد فك الإشتباك مع وزارة الأوقاف التى تنافسه بدون إمكانيات " .. وقد كانت الحركة فى غنى عن لجوء الدولة لنزع الشرعية عن تنظيماتها بأن تبادر هى بهذا التحول الضرورى ، فالمرحلة ليست مرحلة جماعات والأمانة الوطنية والمسئولية التاريخية إقتضت الإلتحام مع الدولة فى مواجهة تحديات عولمة الإرهاب وإختراق الجسد العربى والمصرى بالمشاريع الأيدلوجية والمذهبية الممولة والموجهة ، وليس التأثر سلبياً بتلك المشاريع ، وكان بقاء التنظيمات كما هى أحد أهم العوامل التى جعلت للتنظيمات الجديدة المعولمة اليد الطولى والصوت الأعلى على التنظيمات التقليدية وجرفت جانباً منها نحو خياراتها ، وهو ما لم يكن ليحدث فى حال التحول الذى من شأنه جعل الجماعات جزءاً من الوطن وكياناً من كياناته وليس مناهضاً له . يومها – وقد كان ذلك تحديداً فى بدايات 2012م – طرحنا على المعترضين تجربة قطر وتساءلنا عن السبب الذى يعوق تنفيذ الحل والإندماج فى مصر فى حين قام إخوان قطر بذلك ؛ حيث تم حل فرع الإخوان فى قطر وإندمج فى الدولة وتبنى هذا المشروع الدكتور جاسم سلطان القيادى الإخوانى القطرى ؟ وإستدعينا ما دعا له المفكر الكويتي والعربى المعروف الدكتورعبدالله النفيسي إلى حل جماعة الإخوان المسلمين ، معتبراً أنها ككيان تاريخي أصبحت عبئاً على الحالة الإسلامية والحالة السياسية العربية بشكل عام مؤكداً – فى مقال نشرته مجلة المنار الجديد - على أن التجربة القطرية كانت رائدة في هذا المجال ، عندما قرر تنظيم الإخوان في قطر دراسة حالة للتجربة وتقييم مدى الحاجة لوجود تنظيم إخواني ، وإنتهت الدراسة التي عام 1999م إلى ضرورة التحول إلى تيار فكري إسلامي عام يخدم القضايا التربوية والفكرية في عموم المجتمع. ووقتها ذكر الدكتور النفيسى رأيه بالإخوان في مصر قائلاً : " لقد تحوّلوا إلى إسفنجة تمتص كل الطاقات وتجمّدها ، إنهم حيثما كانوا يساهمون في تجميد الحالة Freezing Factor ، وذلك يخدم في المحصول النهائي النظام أينما كان ، إنهم يقومون بدور وظيفيFunctional لصالح الدولة هناك دون أن يشعروا ، بمعنى أنهم لا يتحركون للأمام لصالح حركتهم ، وجمودهم التنظيمى والحركى يصب دائماً فى مصلحة النظم السياسية والتيارات المنافسة لهم .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.