مع بداية العام الجديد نقلت الصحافة عن راديو إسرائيل أن الحكومة الإسرائيلية تستعد لمواجهة الفوز المحتمل لحركة حماس في الانتخابات البرلمانية ب "إعادة النظر في خريطة الطريق". كما كان من المفترض قبل نزيف المخ الذي تعرض له شارون أن يتوجه المبعوثان الأمريكيان إليوت أبرامز ودافيد وولش منذ يومين إلى القدس للتشاور مع حكومة إسرائيل حول النتائج المحتملة للانتخابات الفلسطينية وتوابعها. وهكذا تتواصل الضغوط التي كنت قد تناولت أهم حلقاتها في مقال الأسبوع الماضي. فمنذ منتصف ديسمبر، والجميع يهدد ويتوعد السلطة الفلسطينية حتى تمنع حماس من المشاركة في الانتخابات المتوقع إجراؤها في الخامس والعشرين من يناير، أو تقوم بنزع سلاحها بالقوة أو بتفكيك بنيتها التحتية. هذه الحملة النفسية الشرسة ، التي يتواطأ فيها بجانب إسرائيل كل من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوربي وسكرتارية الأممالمتحدة وأعضاء اللجنة الرباعية ، تهدف إلى ما يمكن وصفه ب "إبتزاز سياسي ومالي لحصر خيارات الشعب الفلسطيني وللوصول إلى ديمقراطية مقيدة بشروط الاحتلال الإسرائيلي وأغلال الموقف الدولي" كما تقول عائشة المري . وقد إستند تفسيري لدوافع هذه الحملة إلى ما أراه من إصرار محور التواطؤ على إقصاء رموز الممانعة الإسلامية عن مواقع السلطة والقرار، وأن ما يجري من صخب ضد مشاركة حماس في الانتخابات لا يختلف عما جرى من صمت إزاء التزوير ضد الإخوان المسلمين في الانتخابات المصرية. ويكفي في هذا الصدد أن ننظر إلى الغالبية من كبريات صحف الغرب التي لم تتعرض بكلمة لجرائم حزب مبارك أثناء الانتخابات المصرية سواء بافتتاحية أو مقال رأي ، بينما أقامت نفس هذه الصحف الدنيا في إفتتاحيات ومقالات رأي يصعب حصرها حول الحكم على أيمن نور بالسجن ومذبحة اللاجئين السودانيين في حي المهندسين بالقاهرة. تستهدف الحملة على حماس ضرب عدة أطراف بحجر واحد، بدءا بالناخب الفلسطيني الذي وصلت إليه رسالة مفادها أن صوته لحماس قد يعني حرمانه من لقمة العيش التي تتحكم فيها عواصم الغرب من خلال المعونات. تستهدف الحملة أيضا اللعب على أعصاب أطراف عدة على رأسها سلطة محمود عباس ونظام مبارك (الوسيط) و منظمة حماس. بالنسبة للسلطة الفلسطينية ، فما تزال الضغوط عليها ، لإشعال حرب أهلية ، هي أحد أهم تكتيكات الغرب لإبقاء الكرة في الملعب الفلسطيني والتغطية على مايجري من تهويد مستمر للقدس والأرض ، وصهينة للأنظمة العربية. والسلطة لا تعرف كيف تتصرف إذا ما جرى تحميلها مسئولية إنسحاب إسرائيل من "خريطة الطريق". لا يهم بالطبع أن هذه "الخريطة" لم تلتزم بها إسرائيل يوما واحدا ، ولكن ما يهم هو تحميل السلطة مسئولية وأدها كما تحملت من قبل مسئولية وأد أوسلو ورفض "عرض باراك الكريم" ، مع تبرئة إسرائيل من كل ذنب وجرم . وبالنسبة للنظام المصري الذي يقوم بدور "المشهلاتي" في فلسطين والعراق ، فإن أي إنتصار إنتخابي لحماس يثير له مشاكل عدة : فالتمكين لحماس يجعل مهمة السمسرة والتشهيل أكثر صعوبة ، ويعيد المقاومة إلى صدارة الأجندة الشعبية بكل ما ينتج عنها من صداع وقلق للأنظمة الحاكمة، ويفاقم مشكلة نظام مبارك مع التيار الإسلامي في الداخل. وكان القيادي المعروف محمود الزهار قد أعلن في محاضرة بمعسكرالشاطئ بمدينة غزة أن حماس تخوض الانتخابات "لاستمرار برنامج المقاومة، ولنقضي على البقية الباقية من شيء اسمه أوسلو، والوقوف في وجه خارطة الطريق من الداخل". كما أكد رفض المفاوضات من أجل المفاوضات "أو أن تكون خيارا إستراتيجيا". وقال أيضا " إننا سنقفل حدودنا تماماً مع العدو على كافة المستويات، وعبر مصر والأردن سنصل إلى الأمة ونقنعها أننا برنامج إصلاح حقيقي فتأتي أموال بديلة عن الأموال التي تصادر قناعاتنا، الأموال التي تستخدم على حساب ديننا ووطنا، والتي لا تذهب إلى الشعب بل إلى الجيوب لا نريدها، الاحتلال يقول: لا انتخابات في القدس، وأمريكا تقول: لا انتخابات. وأقول: إنه إذا وحّدنا صفنا سنجري الانتخابات رغماً عنهم." وأما حماس ، فيراد لها أن تختار بين السلطة وبين تخفيف المعاناة على الشعب ، وبين السلام الداخلي والصراع الأهلي ، وأن تفهم بأن إنتصارها لن يكون بلا عواقب. وهذا كله يضغط عل أعصاب قيادات الداخل والخارج . ويحذر مهيب النواتي في موقع فضائية العربية على الانترنت مما يمكن أن تؤدي إليه الضغوط من تعميق للخلافات بين قيادات الداخل والخارج ، فيقول أن القيادتين "يجمعهما مكتب سياسي كهيئة عليا مسئولة مسئولية مباشرة عن إصدار القرارات. الخلافات بين قيادتي الداخل والخارج ليست شيئا جديدا في حياة حركة حماس, وهو الأمر الذي رصد خلال سنوات مضت حول أكثر من قضية, نذكر منها رغبة مشاركة بعض قيادات من حركة حماس من الداخل في انتخابات عام 1996 لأول مجلس تشريعي فلسطيني. مشاركة حركة حماس في الانتخابات ستؤدي إلى انتزاع مركز الثقل القيادي من أيدي قيادة الخارج لتعود إلى قيادة الداخل من جديد". لا جدال في أن مهمة حماس صعبة ، حيث أن عليها أن تتعامل مع عدة جبهات في وقت واحد ، أصعبهم هي جبهة الداخل التي ينبغي إقناعها بأن أي تحرك في إتجاه الاستجابة للإرادة الصهيونية سيكون له أسوأ العواقب. وهذا ماحذرت منه قيادات حماس عندما تمسكت بإجراء الانتخابات في موعدها. مطلوب من حماس أيضا أن تخفف من ضغوط نظام مبارك على سلطة أبو مازن بوضع النقاط فوق حروف علاقة نظام مبارك بالقضية الفلسطينية : السمسرة التي تصب في خدمة التواطؤ الصهيوني مرفوضة ، وأية ضغوط مناهضة للديمقراطية الفلسطينية قد تتسبب في إنفجار فلسطيني داخلي لن ينجو حكم مبارك من عواقبه. أما ضغوط الغرب ، فمن الصعب تخيل وسيلة فعالة للتعامل معها ، حيث أن أية محاولة للاتصال بالصحافة والإعلام لن تجد أمامها إلا الصدود، لكون حماس منظمة "إرهابية". وأية صحيفة لا تتحمل ضغوط اليهود ستتردد ألف مرة قبل أن تخصص مساحة لأحد قيادات حماس. كما أنه يستحيل على أنصار حماس في عواصم الغرب الإنتصار لها وللقضية الفلسطينية علنا على صفحات الصحف ، وإلا كان مصيرهم الاعتقال والحبس بتهمة تأييد الإرهاب والتحريض عليه. ولا يبقى إذن إلا الثبات أمام هذه الضغوط كما تفعل إيران فيما يتعلق ببرنامجها النووي. فالإيرانيون يدركون أن أية تنازل يقدمونه للغرب سيشجع القوى الصهيونية المتواطئة ، ويزيد نهمها إلى المزيد. وتكفي تجربة عرفات الذي تنازل عن 78% من فلسطين بلا مقابل ، ثم تعاملوا معه وكأنه لم يقدم لهم شئ ، قبل أن يحاصروه ويقتلوه بالسم. ليس أمام حماس إلا مفاقمة أزمة إسرائيل التي أعرب عنها منذ أيام يوفال ديسكين مدير وكالة "شين بيت" عندما قال أن إسرائيل ستواجه "أزمة عميقة" إذا إنتهت الانتخابات الفلسطينية بفوز حماس بنسبة كبيرة ، حيث أن إسرائيل ستواجه وضعا مختلفا بالكامل : "إختراق حماس لكافة مؤسسات السلطة وفرض مناهجها التعليمية على التلاميذ الفلسطينيين ، وتعاليمها الداعية إلى تدمير إسرائيل." ولكن ماذا تفعل حماس إذا إكتسحت الانتخابات وفازت بأغلبية ساحقة ، وأصبح عليها تشكيل حكومة السلطة الفلسطينية ؟ هذه قصة أخرى.