اشتملت رحلة الإسراء والمعراج على نبوءات تاريخية وعلمية عديدة تحقق الكثير منها ولا يزال الزمن كفيلا بالكشف عن إشاراتها المعجزة، فذهاب النبي لإمامة النبيين في بيت المقدس كان إيذانا بغروب شمس الطغيان البيزنطي عن هذه الأرض المباركة، وآية على تحرير المسلمين لها، وهو ما جرى بعد وفاة النبي في عهد الفاروق عمر، ثم إن السياق اللاحق في سورة الإسراء يشير في لطف ودقة إلى تقلب حال بني إسرائيل، حيث قال تعالى: ” وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا “ (القرآن، سورة الإسراء: 17: 4-6) .. وكان العلماء قديما يفسرون فساد بني إسرائيل بقتلهم النبيين وعلوهم في الزمن الماضي وما جرى عليهم من المحن على يد بختنصر وقسطنطين وغيرهما من الملوك،[1] غير أن تقدم الزمن وتجدد المحن أثبت نبوءة القرآن العظيم، وما بلغه بنو إسرائيل في عصرنا من العلو في الأرض، وهذه نبوءة تاريخية بالصراع الدائر على الأرض جاء في تكملتها: ”إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا “ (القرآن، سورة الإسراء: 17: 7)، والإشارة هنا إلى المسجد الذي ورد ذكره في الآية الأولى، وهي نذارة وتحذير لبني إسرائيل من الإساءة وترغيب لهم في الإحسان، فعلى وفق معاملتهم سيجازون؛ على أن النصر حليف المسلمين في نهاية الأمر، وأن العاقبة لهم؛ فقد تسلم النبي مبكرا الإمامة، وما اشتملت عليه من معاني التقدم والريادة والنصر “وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ” لذلك كانت الرحلة فريدة في نبوءتها الجغرافية والتاريخية وسياقها وترتيبها. وجاء انقسام الرحلة إلى قسمين؛ أحدهما؛ الإسراء إلى بيت المقدس، وهذه رحلة تدور في فلك الأرض، وثانيهما؛ المعراج وهذه رحلة ارتقاء إلى السماء؛ والعجيب في الإسراء أن ما كان معجزا في نسبته الزمنية من أربعة عشر قرنا أصبح اليوم معتادا في صورته الحالية بعد أربعة عشر قرنا، فباستطاعة المسافر بالطائرة الآن أن يقطع المسافة من مكة إلى بيت المقدس ذهابا وإيابا بين العشاء والفجر، فهل استخدمت هذه الرحلة العجيبة الدابة علامة على ما سيصل إليه الإنسان من بديع المخترعات التي تقطع المسافات الطوال في ساعات قليلة، على بُعد ما بين مادتي القدرة في الصورتين، فمادة الإسراء من كمالات القدرة المطلقة، وهي من تجليات القدير الحق سبحانه، أما طيران الإنسان فمن كمالات القدرة المكتسبة المحدودة، ولا مقارنة بينهما.. لكن ألا يحق لنا أن ننتظر مزيدا من المخترعات التي تصل بالإنسان إلى بقاع الأرض البعيدة، وتصعد به إلى آفاق السماء يستكشف الكواكب والمجرات في دقائق معدودة، لعل من المرجح الوصول إلي ذلك في العقود القليلة القادمة. وبالعود إلى نسبية الزمان والمكان، نجد أنه إذا كانت مسافة الجغرافيا من مكة إلى المدينة يمكن أن تُقطع ذهابا وإيابا في جزء من الليل بفعل الاختراعات الحديثة، فإن المسافة إلى السماء، والصعود عبر معارجها سماء بعد أخرى، وملاقاة الرسل، وما شاهد النبي من المشاهد، يحتاج إلى وقت طويل إذا حسبناه بساعات الدنيا اقتضى مئات الساعات، وهنا تظهر نسبية الزمن، وأن الأحداث الإنسانية التي تجرى في قالب الزمن تسير وفق قانون النسبية الحاكم للزمن الحادث والمحدثات فيه، وكذلك الأمر بالنسبة للمكان؛ حيث التقى الرسول الأنبياء وصلى بهم في بيت المقدس، وكان قد مر على موسى في قبره بجبل الطور وهو قائم يصلي في قبره،[2] ثم التقى الرسل في السموات في رحلة المعراج، وهذا يوضح كذلك نسبية المكان إلى الجغرافيا والجهة كما نعلمه في هذا العالم... وقد يتخيل البعض أن في هذا تناقضا، وهذا إنما يتخيله من ظن الأمر على وفق نسبية الأحداث في الدنيا، حيث يرتبط الجرم بالزمان والمكان والنسبة بينهما، أَمَا وقد جاوزت المعجزة حدود النسبية المشهودة لنا إلى المطلق الغائب عنا، فلا مجال للاعتراض عليها بالعقل النسبي الذي تنعقد العلاقات فيه على وفق هذه النسبية القاصرة. وعلامة ذلك انتقال المكان الجغرافي في الزمان النسبي، عندما طلب المشركون أو أحدهم من رسول الله وصف بيت المقدس قائلا: أنا أعلم الناس ببيت المقدس فأخبرني كيف بناؤه؟ وكيف هيئته؟ فرفع لرسول الله بيت المقدس فنظر إليه كنظر الرجل إلى بيته.[3] وهذا الحديث ليس غريبا على يد القدرة، بل هو من هبات القدرة للبشر كما وهبه الله لبعض من جنود سليمان (عليه السلام): ”قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِين (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي...” (القرآن، سورة النمل، 27: 38-40). على أن البخاري و مسلم قد أخرجا هذا الحدث من زاوية أخرى من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ”لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه“[4]، ويذكر ابن سيد الناس أن جبريل صوره في جناحه لرسول الله،[5] وهذه آية أخرى على نسبية البصر الإنساني وآفاق الرؤية، وهذا ما يؤيده العلم الحديث، كما يدل على أن العين الباصرة المحدودة قابلة أن ترى بنور الله اللدني أو بنور الله في العلم المكتسب عبر مسافات بعيدة. ولعل اختراع المقراب أو الراصدة (التلسكوب) وجه إنساني تتجلى فيه إشارات من القدرات الإنسانية الممنوحة من العلم الرباني لامتدادات البصر الإنساني، ومثل ذلك يقال في النقل التلفزيوني عبر الأقمار الاصطناعية لأحداث العالم من مختلف البقاع في اللحظة ذاتها، حيث يرى أهل العالم معرضا منعقدا في أفريقيا ومؤتمرا في أمريكا ومسابقة في آسيا في لحظة واحدة تصور المكان والحدث والحديث في الزمن الواحد، وبذلك تمتد الرؤية الإنسانية من خلال علوم الوسائل امتدادا عظيما كان الحديث عنه في الماضي القريب ضربا من الخيال غير قابل للتصديق. وهذه جميعها إشارات جليلة إلى نسبية الوجود الإنساني والعالم الذي يقع فيه هذا الوجود، زمانا ومكانا وصفة واستعدادات؛ وحق لنا أن نتوقع يوما قريبا يستطيع الإنسان أن ينقل فيه القصور العظيمة والأبنية الكبيرة دون حاجة إلى تقطيعها أو إعادة تركيبها، وأن نتوقع اليوم الذي يكتشف فيه الإنسان من بديع العدسات ما يستطيع بها أن يرى قارات الدنيا وهو جالس في مكانه وغيرها مما هو اليوم في رحم الغيوب..
[1] راجع مثلا أبو الحسن الماوردي، النكت والعيون، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 2/228-230؛ ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، (بيروت، المكتب الإسلامي، 1403/1983)، 5/8-10؛ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ص 1105. [2] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى، (ح 2375). [3] راجع: ابن كثير، مرجع سابق، ص 1093؛ وذكر القصة ابن هشام غير أن الذي طلب منه صفة البيت كان أبو بكر، قائلا: أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة، قال: نعم. قال: يا نبي الله: فصفه لي. قال صلى الله عليه وسلم: فرفع لي حتى نظرت إليه. راجع ابن هشام، السيرة النبوية، 2/50؛ وانظر: ابن حجر، فتح الباري، 7/240. [4] البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء، (ح 3886)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، (ح 276). [5] ابن سيد الناس اليعمري (ت: 734ه)، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، (دمشق: دار ابن كثير)، 1: 242.