يبدو أن دعوة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في الأيام الأخيرة لمعاقبة المسئولين المتورطين في الفساد جاءت متأخرة كثيرا، حيث تجاوزت بعض دعوات وتحركات الحراك الشعبي المتواصل منذ عام "الخطوط الحمراء" فيما يتعلق بانتقاد النظام الملكي. ففي تصريحات أدلى بها لوكالة "فرانس برس" في 27 يناير، أكد الناشط علي الحباشنة، رئيس اللجنة الوطنية العليا للمتقاعدين العسكريين، أنه يجب على الملك أن يعلن بكل وضوح وصراحة إرادته الحقيقية بفتح تحقيق في كل قضايا الفساد بغض النظر عن الصداقة أو صلة القرابة منه. ولم يكتف الحباشنة بما سبق، بل إنه دعا الملك أيضا إلى الاقتداء بأجداده وأن يعلن تبرعه بأمواله المنقولة وغير المنقولة لصالح خزينة المملكة وأن يدعو الأمراء إلى الاقتداء بهذه الخطوة لإغلاق ما سماها " أفواه كثيرة"، في إشارة ضمنية إلى شائعات حول الفساد داخل العائلة المالكة. واللافت إلى الانتباه أن تصريحات الحباشنة السابقة جاءت بعد أيام قليلة من إعلانه عن تشكيل حزب سياسي جديد، سيكون في حال الترخيص به، أول حزب منبثق عن الحراك الشعبي. ولعل ما يضاعف قلق الملك تجاه التصريحات النارية السابقة أنها لم تكن الأولى من نوعها في الساعات الأخيرة، فالناشط والمتقاعد العسكري وعضو البرلمان الأسبق أحمد عويدي العبادي دعا علنا لتحويل المملكة إلى جمهورية، مقترحا تشكيل مجلس انتقالي على غرار التجربتين السورية والليبية، الأمر الذي دفع محكمة أمن الدولة على الفور لإصدار مذكرة جلب بحقه بتهمة التلويح بالتمرد المسلح. ورغم أن مدعي عام عمان أصدر في 25 يناير قرارا يقضي بمنع مدير المخابرات الأردنية السابق محمد الذهبي من السفر والحجز التحفظي على أمواله المنقولة وغير المنقولة، إلا أن التقارير حول حجم ثروته من شأنها أن تضاعف أيضا مأزق الملك عبد الله الثاني. ففي 27 يناير، كشفت صحيفة "العرب اليوم" الأردنية أن الثروة المالية التي يملكها مدير المخابرات الأسبق الجنرال محمد الذهبي بعد الحجز عليها تبلغ 30 مليون دينار في البنوك المحلية فقط، بالإضافة إلى منزلين ضخمين يرقى كل منهما لمستوى القصر، وتوقعت أن تكشف التحقيقات معه عن مفاجآت لم يكن أحد يتصورها إطلاقا حول احتمال امتلاكه ثروة أضخم خارج المملكة، مشيرة إلى أن جهاز غسيل الأموال والإرهاب التابع للبنك المركزي هو الذي حرك دعوى قضائية ضده. بل وكشفت وسائل إعلام أردنية أخرى أن ثروة الذهبي لا تخفي أيضا الجدل حول القصر العملاق الذي يملكه خليفته الجنرال محمد الرقاد والذي وصل سعره لأكثر من 20 مليون دينار لا يمكن توفيرها إطلاقا من خلال راتب وظيفته. ولعل ما يضاعف حدة الغضب الشعبي أن التقارير السابقة حول الثروات الضخمة للمسئولين سواء السابقين أو الحاليين تأتي متزامنة مع تردي الأوضاع الاقتصادية في المملكة، حيث أضرم أردنيان النار بنفسيهما خلال الأيام الأخيرة بسبب ظروفهما المعيشية الصعبة، الأمر الذي استفز بشدة الناشط الشاب عدي أبو عيسى الذي قررت محكمة أمن الدولة سجنه عامين بعدما أحرق صورة الملك. بل وشارك آلاف الأشخاص في تظاهرة حاشدة في وسط عمان في 27 يناير دعت لها الحركة الإسلامية للتأكيد على مطالب الإصلاح الشامل ومكافحة الفساد، كما أعلنت حركة شباب" 24 مارس " التي نفذت أول محاولة للاعتصام المفتوح في قلب العاصمة الأردنية العام الماضي أنها تستعد لخطوة مماثلة في الذكرى الأولى لاعتصامها الذي تعرض للقمع. ورغم أن السلطات ادعت أن هذه الحركة انتهت وتلاشت لأنها ليست أكثر من ذراع للإخوان المسلمين، إلا أنها عادت للظهور في شوارع عمان في 27 يناير وبدأت تقارير تتحدث عن فشل قيادات الإخوان في السيطرة على تحركاتها. ويبدو أن تشكيك المعارضة وعلى رأسها الحركة الإسلامية بالحملة التي أطلقتها الحكومة في ديسمبر الماضي ضد مسئولين سابقين ورجال أعمال نافذين واستهلتها بتوقيف عمر المعاني أمين عمان السابق بتهم تتعلق بالفساد، يرجح أن الأسوأ مازال بانتظار المملكة في حال عدم الإسراع بتنفيذ إصلاحات سياسية حقيقية. ففي 27 يناير، نقلت صحيفة "القدس العربي" اللندنية عن زكي بني ارشيد رئيس المكتب السياسي في حزب جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسية للإخوان المسلمين وأبرز أحزاب المعارضة في الأردن، قوله:" إنه حتى اللحظة لا يوجد ما يبشر بانتهاج سياسة جادة في معالجة الأزمات".وتابع " لذلك نرى أن الشعب الأردني يعبر عن عدم رضاه عن هذه الأوضاع بأشكال متعددة ومتفاوتة منها على سبيل المثال الحراك الشعبي المستمر منذ أكثر من سنة والاعتصامات والإضرابات والاحتجاجات والمظاهر التي بدأنا نلمسها مؤخرا بإقدام بعض المواطنين على حرق أنفسهم". واستطرد بني ارشيد" هذه كلها عبارة عن نواقيس خطر تدق سمع صاحب القرار في الأردن، المخرج الحقيقي هو في الاستئناف السريع للإصلاحات الدستورية والذهاب بشكل مبكر إلى انتخابات برلمانية وفقا لقانون انتخابي ديمقراطي جديد، واجراء انتخابات خالية من التزوير والفساد الذي اتسمت به الانتخابات السابقة". وفي السياق ذاته، قال محمد المصري الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية:" أمام الملك فرصة تاريخية لتقديم نموذج للديمقراطية من خلال عملية سلمية وتدريجية دون مخاطر من شأنها أن تسمح للجميع بالشعور بالرضا، الأمر لايتعلق باتخاذ قرارات تصحيحية هنا وهناك ولكن بإقامة ديمقراطية حقيقية ستكون مصدر شرعية جديدة للنظام وضمانة للأمن والاستقرار في البلاد". والخلاصة أن الملك عبد الله الثاني يواجه للمرة الأولى منذ توليه العرش عام 1999 تحديات داخلية غير مسبوقة تهدد في حال عدم معالجتها سريعا بانتقال "الربيع العربي" إلى الأردن.