أغلقت على أهل سوريا وخصوصًا حلب (ربع سكان سوريا، ومدينة الثروة والتجارة) معادلات الصراع الإقليمي والدولي، فكان الاحتراق وحرب الإبادة من نصيبها: أهلا وبشرًا، وأحياءً وسكانًا. هكذا هي معادلات الصراع الإقليمي والدولي عندما تستحكم حلقاتها، وتفرض الدول الكبرى رؤيتها ومنطقها وأجندتها للصراع، فلا عبرة لسقوط مدنيين عزل، ولا لاحتراق أطفال تحت وابل القصف المكثف، والغارات الجوية الشنيعة، ولا حرمة لمستشفيات ومرضى، حيث يقصف بشار والمحتلون الروس مستشفى القدس بحلب. خمس سنين عجاف على الصراع في سوريا، ولا زالت الحرب مفتوحة على كل الاحتمالات، وربما يطول أمدها خمس سنين أخرى، طالما ظلت المعادلات الحاكمة لاستمرار الحرب قائمة. وليست المعركة بين بشار وفلوله والشعب السوري، بل هي معركة حقيقية بين حق الشعب السوري في تقرير مصيره، وبين مراكز القوى الدولية والإقليمية التي تريد أن تحافظ على مكتسباتها من احتلال سوريا، واستمرار قواعدها العسكرية والبحرية فيها، وأن تظل سوريا في حالة عجز واحتياج هيكلي، فلا تقوم قائمة لهذا الكيان المسمّى سوريا. وفي هذه الحرب الشرسة ليس أمام الشعب سوى مواجهة الإبادة، والضغط بكل السبل على أن تتسلح المعارضة بسلاح نوعي يغير موازين القوى على الأرض وفي السماء، وأن تفرض اختيارها على الأقطاب الدولية. معركة حقيقية يكون الرهان فيها على اختيار الناس وقرارهم بخوض معركة المصير وتقريره، فالذين يموتون في الفرار أكثر من الذين يموتون في المواجهة. وليس للمؤسسات الدولية قرار مستقل في هذه الحرب الدائرة على الشعب السوري، بل هي أدوات في الصراع الدولي، تضفي الشرعية الشكلانية على ما تقرره الأطراف الفاعلة في الصراع: تقرر أمريكا وروسيا أن تكون هدنة فتكون هدنة، تقرران الحرب بالوكالة أو الحرب المباشرة، فتكون الحرب بالوكالة أو الحرب المباشرة، هذه هي الحقائق الصماء التي تحكم الصراع في (وعلى) سوريا. وبقايا نظام بشار التي تتحكم فيما تسيطر عليه من أراضي وشعب لا تملك من أمر نفسها شيئا، فسوريا أو ما تبقى منها لعبت بها كل الدول الكبرى والإقليمية، وغدت ساحات حرب بالوكالة أو الحرب المباشرة. حلب لا تحترق، حلب تُصفّى تحت وطأة قصف مجرم، حلب تتعرض لمحرقة ومعركة إبادة كاملة، حلب تتعرض لما هو أكبر من جريمة ضد الإنسانية، حلب تستهدف بشكل إجرامي بقصف مركّز لم يحدث مثله منذ خمس سنوات وذلك بهدف اجتثاثها من خارطة المقاومة ضد نظام بشار المحتل: حقيقة لا مجازا ولا مبالغة. سوريا كلها وليست حلب وحدها تُهدم عن آخرها ويُعاد تشكيلها ويُعاد بنائها على أسس جديدة تتوائم مع العصر الروسي الجديد والحليف الإيراني. لقد استهدف التصعيد العسكري وتكثيف الغارات الجوية بالطيران والهجوم الشرس الذي شنته مليشيات بشار على حلب تقويض اتفاق الهدنة من جهة، وتشكيل مسار مستقبل محادثات السلام الجارية في جنيف من جهة ثانية، فلا ما تبقى من نظام بشار يريد السلام ولا حتى الهدنة، ولا الدول الداعمة لما تبقى من نظام بشار تريد للحرب أن تتوقف، وأكثر من سبعة أيام من القصف المركّز على حلب وأحيائها كفيلة بأن تنهي العملية السياسية من الأساس، وأن تقضي على أي تسوية سلمية للصراع. لكن لماذا تستهدف حلب بهذا الشكل المروّع؟ تكمن أهمية مدينة حلب في أنها ثاني أكبر المدن السورية، وتُعد عاصمة الدولة الاقتصادية، وبها ربع عدد السكان، ويسكنها كثير من موظفي الدولة والعسكريين، وهي من أكثر مدن سوريا السنية محافظة، ونظرا لقربها من الحدود التركية فبها الممر الحيوي إلى تركيا، ومن ثم فحلب تشبه بنغازي ليبيا، حيث نجحت الثورة الليبية أن تنشئ مركز سيطرة وإدارة، ومنه زحفت على بقية الدولة حتى نهاية حكم القذافي (مع التأكيد على أن سوريا تختلف تماما عن ليبيا من حيث الظروف الداخلية، والمعادلات الإقليمية والدولية الحاكمة للصراع). ومن ثم فمعركة حلب هي معركة مستقبل نظام بشار ورسيا وإيران في سوريا، ومن هنا نفهم تلك الدموية البالغة في حسم معركة قد يكون لنتاجها تأثير على كامل الحرب في سوريا، ومستقبل التحالف الداعم لبقايا نظام بشار، وما يترتب على ذلك من إعادة ليس رسم خريطة سوريا بل إعادة رسم خريطة المنطقة العربية كلها.