سوريا تواجه قرابة 1000 جماعة قتالية، تضم 100 ألف مسلح، يتَّبعون تكتيكات حرب العصابات، ما يسمح لهم باستنزاف أقوى جيوش العالم، مواجهة الإرهاب تفرض وقف تمدده، وتعاون المدنيين، لذلك اضطرت القوات السورية لحصار مناطق استيطانه، التى تتوافر فيها البيئة الحاضنة، وهى استراتيجية لم تحاصر الإرهابيين فقط، بل وسعت من مظاهر الرفض الشعبى لهم، وأدت ل35 عملية تفاوض منذ 2011، توصلت لاتفاقات هدنة، وانسحابات للمسلحين، على نحو حقق تغييرات جذرية فى توازنات القوى. الهدنة فى حرب المدن تتحقق بالتوافق على وقف الأعمال العدائية، تخفيفاً لمعاناة المدنيين، وإخلاء القتلى والجرحى، ومقدمة لانسحاب الطرف الذى اختل التوازن فى غير صالحه، وقد تؤدى للسلام عندما يصل الطرفان إلى حد الإنهاك.. الساحة السورية شهدت هدنتى كوفى عنان والأخضر الإبراهيمى 2012، معضمية الشام شرق دمشق 2013، وأحياء برزة والقابون شمالها، وبيت سحم ويلدا وببيلا جنوبها، ومقاتلو الجيش الحر وأحرار الشام والنصرة غادروا حمص بموجب هدنة 2014. فى السنة الخامسة من الحرب، تحولت الهُدَن لظاهرة.. المجلس المحلى لحى القدم جنوب العاصمة وقع اتفاق مصالحة مع الحكومة، أوقف العمليات، وبدأت عودة 500 عائلة بينهم بعض عائلات المسلحين!!، هدنة سبتمبر 2015 سمحت بإجلاء جرحى مقاتلى النظام وأسرهم من الفوعة وكفريا، مقابل انسحاب مسلحى المعارضة من الزبدانى، وتوسع الاتفاق ليشمل وصول المساعدات للمدنيين فى «مضايا» الذين يتجاوز عددهم 24.000، هدنة قدسيا «نوفمبر 2015» فتحت الطرق وفكت الحصار، وفى ديسمبر وقعت اتفاقات بالريف الشمالى لحلب، بين غرفة عمليات مارع وجيش الثوار، وبين غرفة عمليات المعارضة ووحدات حماية الشعب الكردى «YPG»، وأخيراً هدنة حى الوعر، آخر منطقة خاضعة لسيطرة المسلحين بحمص، التى تسمى «عاصمة الثورة». النظام كاد يسقط بسبب تدهور الوضع الأمنى جنوبدمشق، لكن حصار الجيش للتنظيمات المسلحة نجح، وتمكن من إحباط «عاصفة الجنوب» التى استهدفت اختراقه «يونية 2015»، فاضطرت داعش للاتفاق مع النظام «ديسمبر 2015»، لسحب 5000 من مقاتليها وعوائلهم، من مخيم اليرموك وأحياء القدم، العسالى، الحجر الأسود.. تنفيذ الاتفاق يسمح بعودة 1.8 مليون سورى وفلسطينى للمنطقة، ما يفسر خشية «النصرة» من انفراد النظام بها، ومحاولتها إفساده باستهداف قادة داعش، والاشتباك معهم.. هذه الظاهرة تعكس تراجع عام فى موقف المعارضة المسلحة، أكده انسحاب داعش من حقل التيم النفطى جنوب دير الزور شرق سوريا، بعد أن أصبح غير مجدٍ نتيجة لاستهدافه وقصف حافلات النفط، وتراجع مصادر التمويل، مما أدى لتخفيض رواتب المقاتلين للنصف.. داعش استكملت ذلك باتفاقات تبادل للمعتقلين، مع فصائل المعارضة «جيش الإسلام، أحرار الشام، جيش أبابيل، لواء شام الرسول..»، مستهدفة نقل المبايعين لها لمناطق سيطرتها شرق سوريا، فى توجه صريح للانكماش وإعادة التمركز. الظروف والاشتراطات المتعلقة بكافة اتفاقات الهدنة تعكس اختلالاً كبيراً فى ميزان القوى لصالح النظام: ■ فقد تمت برعاية الأممالمتحدة، وبعض القوى الإقليمية «إيران، تركيا، منظمة تحرير فلسطين والجبهة الشعبية»، مما يعكس الدعم الدولى والإقليمى لها. ■ وانطلقت بمبادرات من وجهاء وأعيان وأهالى المناطق المحاصرة، مما يؤكد تخلى البيئة الحاضنة للجماعات المسلحة عنها، وفقدانها لمرتكز نجاحها الرئيسى. ■ رفضت السلطة التفاوض المباشر مع المسلحين، وتمسكت بالتفاوض مع المدنيين والوسطاء. ■ نصت الاتفاقيات على إزالة السواتر الترابية، وتأمين مقومات الحياة، وعودة مؤسسات الدولة، وتحصين المنطقة ضد الإرهاب، وكلها بنود تعنى تطبيع مظاهر الحياة وعودة الدولة وسقوط المشروع الإرهابى. ■ تضمنت الاتفاقات الإفراج المتبادل عن المعتقلين والمحتجزين، ونزع السلاح، وعودة الجيش السورى للمناطق التى تنسحب منها التنظيمات. ■ ضمنت الحكومة سلامة انسحاب المسلحين بأسلحتهم الشخصية فقط، على أن يتوجهوا إلى الرقة للمنتمين ل«داعش»، وإلى مارع لمقاتلى «النصرة»، فى عملية إعادة تمركز إقليمية. ■ رحبت الدولة بمن فضلوا البقاء من المسلحين وأسرهم، وسمحت بتسوية أوضاعهم. ■ سوريا أجلت تنفيذ بعض الاتفاقات لما بعد جلسة مفاوضات جنيف3، لتؤكد استمرار إمساكها بزمام المبادرة العسكرية والسياسية على الأرض، وعدم تعويلها على نتائج المفاوضات. النظام السورى أدار الصراع باستراتيجية جمعت بين المواجهة الحربية، والحصار، والتفاوض، تقديرات جمعية «باكس» الهولندية و«معهد سوريا» الأمريكى، «أن قاطنى المناطق المحاصرة بدمشق وحمص ودير الزور وإدلب أكثر من مليون»، يسعون لاتفاقات هدنة مماثلة، وانسحاب للمسلحين.. الغارات الروسية مكنت القوات السورية من تحرير 217 بلدة، مساحتها ألف كم2.. أمّنت محيط العاصمة، ووضعت خطة لاسترداد طريق دمشق - درعا، لتوفير خط إمداد للجيش فى اتجاه المدينة، وتأمين مقر الفرقة الخامسة، ما يمكنه من حصارها، والاقتراب من الحدود الأردنية.. الجيش نجح فى تحرير محافظة اللاذقية بالكامل، وتأمين الشريط الساحلى الذى يمثل 25% من مساحة الدولة، ويضم 75% من السكان، ويخوض معركة حاسمة فى جبل التركمان لاستكمال إغلاق الحدود مع تركيا تجاه ريف اللاذقية.. روسيا وفرت مظلة جوية للميليشيات الكردية وقوات سوريا الديمقراطية التى تضم ميليشيات كردية وعربية وسريانية وأرمنية وتركمانية، رغم أنها تحظى بدعم أمريكى، واستقبلت وفد حزب الاتحاد الديمقراطى وصلاح الدين دميرتاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطى، فحررت ميليشياتهم تل أبيض والهول بريف الحسكة، وسد تشرين، والقرى المحيطة بريف حلب، وتتقدم غرباً فى اتجاه مطار مينج، وممر اعزاز الاستراتيجى، لتلتقى مع القوات السورية المقبلة من الجنوب، لتطوق ريف حلب الشمالى، وتحاصر المعارضة المسلحة فى حلب من كافة الاتجاهات، وتحتل الممر، الذى يمثل خط إمدادها الرئيس عبر الحدود التركية، مما يفسر الجنون الذى أصاب أردوغان، واختراق قواته للحدود فى ديسمبر بقريتى سرمساخ وديرنا آغى بريف الحسكة، وفبراير بمنطقة أعزاز، معتبراً الأخيرة خطاً أحمر!!. اجتماع فيينا أجمع على وقفٍ تدريجى لإطلاق النار، و«ميونخ» حدد أسبوعاً للتنفيذ، فى محاولة «خسيسة» لوقف انهيار المعارضة.. «أوباما» ترك الباب موارباً، بدعوته لتوسيع الهُدَنْ، واتجاه دى ميستورا المبعوث الدولى لنشرها، وتحمس «بشار» باعتبارها «أكثر أهمية من محادثات السلام»، لكن رعونة أردوغان، تدفع بالتطورات إلى «حافة الهاوية»، دون تقدير لعواقب تجاوزه حدود الضغط على قوة عظمى كروسيا، وتهديد مصالحها، وعدم إدراك لحدود الرهان على دعم الناتو، عندما يتعلق الأمر بمواجهة تهدد بحرب عالمية، أمريكا ربما تستثمر التهور التركى كوسيلة ضغط، لدعم موقفها التفاوضى بشأن الأزمة، وقد تشجع السعودية على الانزلاق، لكنها فى النهاية ستكبح جماحهم، مقابل فرض هدنة، وفض اشتباك، وربما منطقة منزوعة السلاح، فالبديل لاستراتيجية الهُدَنْ، أن يسقط الجميع فى جحيم ممر «أعزاز».